عام 1689، انبرى الملحّن الإنكليزي هنري بِرْسَل على نصّ وضعه الشاعر نحوم تايت بعنوان "ديدون وإنياس"، وكان استعادة لحكاية قديمة تقع بين التاريخ والأسطورة، في زمن كان فيه الجمهور يحبّذ هذه الالتقاطات من الأزمنة الغابرة وإن حملت الكثير من الإحالات على الواقع. سيصبح هذا العمل أشهر ما قدّمه برسيل، وأحد معالم موسيقى الباروك، إذ نجح الملحّن اللندني في نقل شحنة شعورية قوية عبر الموسيقى، وقد استفاد في ذلك من تأثّره بالموسيقيين الإيطاليين في زمن قيل فيه إن الموسيقى البريطانية قد أغلقت على نفسها أبواب الكنائس والبلاطات.
في "المسرح الروماني" في مدينة الجم التونسية، تُعرض "ديدون وإنياس" مساء اليوم، ضمن فعاليات "مهرجان الجم الدولي للموسيقى السيمفونية" في دورته الرابعة والثلاثين، في عرض تؤدّيه موسيقياً "أوركسترا وجوقة أوبرا تونس" بقيادة هشام عماري، فيها تنفّذ مشاهده فرقة "باليه أوبرا تونس" و"المركز الوطني لفنون العرائس"، علماً أن العرض يعتمد الكوريغرافيا المعاصرة التي صمّمها الفنان الإيطالي لوكا بروني، فيما صمّم ديكور العمل حسّان سلامي.
أن تُعرض أوبرا "ديدون وإينياس" في تونس، وفي معلم تاريخي يعود إلى العصر الروماني، يبدو مثل استحضار للمواقع الأصلية التي تدور فيها أحداث العمل، حيث يتخذ العمل من نص الإنياذة لـ فرجيل مرجعاً تاريخياً، ففي تونس (أو الرقعة الجغرافية التي تمثلها اليوم) يلتقي إينياس الهارب من دمار طروادة، وآخر الأحياء من الأسرة الملكية، بديدون التي كانت قبل سنوات قد فرّت هي الأخرى من طغيان أخيها في صور، وقد أسّست مع بقية اللاجئين الذين اصطحبوها مدينة قرطاج على أحد السواحل التونسية، التي كانت في ذلك الوقت أرضاً تتبع النوميديين.
هذا المشهد التاريخي يعمل أساساً كخلفية في الأوبرا، إذ إن الشخصية الأبرز هي بيليندا، كاتمة أسرار الملكة ديدون، وهي التي تقع في حبّ الأمير إينياس، غير أنها تعرف أنه لا يمكنها الوصول إليه، ولذلك تدفع ملكتها إلى التفكير بالزواج به. في المقابل، ولعلّ ذلك ما يخلق دفعات درامية في الأوبرا، كانت ديدون مشغولة بحكمها وتخشى أن يغضب منها شعبها لو أنها فكّرت في الزواج. أما إينياس فيظهره العمل مندفعاً تجاه الحب، حتى إنه يقع بسهولة تحت سحر ديدون.
تقوم بقية الحكاية على نتاج التوترات داخل هذا المثلث، حيث تتسارع الأحداث وصولاً إلى مشهد ختامي يمثل ذروة التصعيد الدرامي على عادة مسرحيات ذلك العصر، فيفترق كل محبّ عمّن يصبو إليه.
هكذا، ربما تستفيد الأوبرا من مرجعيات كثيرة وهي تُعرض أمام جمهور تونسي، وخصوصاً أن الرواية الرسمية للتاريخ التونسي كثيراً ما جعلت من تأسيس ديدون لقرطاج حدثاً مؤسساً في تاريخ البلاد، تبلورت فيه شخصيتها في اختلافها عن الآخر، وهو ما يحمله رفض ديدون الزواج من كل من تقدّموا إليها، حتى أولئك الذين لان لهم قلبها، مثل إينياس.