09 يونيو 2023
"دولة كردستان المستقلة".. بواقعية سياسية
يتمتع الأكراد بهمّةٍ عاليةٍ من أجل قيام "دولة كردستان المستقلة". لكن إذا ما اختلطت الهمّة العالية بروح قومية متطرفة، فإنها تفقد القيادات والنخب القدرة على الرؤية الصحيحة، ويغشي الطمع على أبصارها. فأين تقف القيادات والنخب الكردية اليوم؟
مع خيبة أمل الأكراد بقيام دولتهم المستقلة على أنقاض السلطنة العثمانية، قاموا بتمرّدات عديدة في تركيا وإيران والعراق، لكن تمرداتهم تم قمعها بشدة. تحالفوا بداية مع السوفييت الذين دعموهم في جمهورية مهاباد في إيران في أربعينيات القرن العشرين، ودعموا تمردهم المسلح في شمال العراق في ستينياته. ومنذ سبعينياته، حوّل الأكراد تحالفهم إلى بريطانيا وأميركا.
أسست القيادات الكردية علاقة قديمة غير معلنة مع إسرائيل، منذ ستينيات القرن العشرين، وقد أخفوها في البداية بسبب ضعفهم وحساسية العرب من أي تعاون مع اسرائيل التي وجدت مصلحة قوية لها في دعم قيام "دولة كردية مستقلة"، لتكون مصدر إزعاج للعراق وسورية ولإيران وتركيا، ثم لأن دولة الأكراد ستكون محل تهديد دائم، ما يجعلها بحاجة كبيرة لدعم إسرائيل. ويلوم العرب الأكراد، بسبب علاقتهم المبكرة بإسرائيل، وتطوير هذه العلاقة والمجاهرة بها أخيرا، ولكن الأكراد وجدوا في إسرائيل منفعةً كبيرة ومصدرًا قويًا لدعمهم، خصوصا بما لها من نفوذ في أميركا... هل نعتبر سلوك الأكراد هذا خيانة للعرب؟ المسألة أن ما يهم الأكراد ليس الإخلاص للعرب أو خيانتهم، بل يهمهم قيام دولتهم.
أثمر تحالف الأكراد مع أميركا دعمًا لقيام كيانٍ شبه مستقل، بحكم الواقع في شمال العراق منذ 1991، حين أصبح صدّام حسين في وضعٍ صعب، بسبب غزو الكويت. ثم تحول هذا واقعا سياسيا أقره دستور عراقي، صيغ تحت وصاية سلطات الاحتلال الأميركي للعراق، والسيطرة الإيرانية على مقاليد السلطة فيه، وأصبح إقليم كردستان العراق جمهوريةً شبه مستقلة، تنتظر فرصة سانحة لكي تستقل كليًا.
وجد الأكراد في سورية فرصتهم السانحة بعد مارس/ آذار 2011، وانطلاق الانتفاضة، إذ اضطر النظام للعودة إلى أوراقه القديمة، والتحالف مع حزب الاتحاد الديمقراطي (فرع حزب العمال الكردستاني "التركي") لضبط المناطق الكردية، ومنعها من الانضمام إلى الحراك المعادي للنظام، ومَنَحَ النظام هذا الحزب كل ما يلزم من دعم مالي وسلاح ودعم لوجستي وإعلامي، وقد قام "الاتحاد الديمقراطي" (بي يي دي) بمهمته خير قيام، لكن غايته، كما "العمال الكردستاني" ومشروعهما في النهاية ليس حماية نظام دمشق، أيا كان هذا النظام، بل إقامة إقليم مستقل في شمال سورية، على غرار شمال العراق، وقد عمل من أجل هذه الهدف بنشاط، مستغلاً حاجة النظام وإيران وروسيا لخدماته.
حين برز تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قوة إقليمية ناشئة، بعد استيلاء مسلحيه على الموصل وأجزاء واسعة من شمال العراق وغربه، ومعظم شمال سورية وشرقها، وأصبح التنظيم الهاجس الأميركي الأول في المنطقة، استغل أكراد العراق المتحالفون مع الأميركان شعار محاربة "داعش" وسيطروا على مناطق إضافية من أرض العراق، مستغلين ضعف حكومة بغداد. كما استغل "بي دي يي" السوري تحالفه مع أميركا واستراتيجيتها لقتال داعش دون قتال النظام السوري، وحصل على دعم أميركي كبير.
بسبب تحالفه المتعدّد مع كل من النظام وأميركا وروسيا وإيران، طوَّر "بي دي يي" مهامه وطور قواته التي باتت تقدر اليوم بنحو 40 ألف مقاتل، جاء جزء كبير منهم من تركيا وإيران والعراق، شاركوا مع جيش النظام ومليشياته في قتال المعارضة، وفرض هذا الحزب، بقوة السلاح، في مناطق سيطرته مؤسساتٍ قيام كيان كردي شبه مستقل، ضاربًا بعرض الحائط مصالح (وإرادة) غالبية سكان تلك المناطق من عرب وسريان وحتى الأكراد، مستغلاً الدعم الأميركي وظروف الصراع في سورية، وغياب سلطة دمشق وحاجتها اليه.
اندفع حزب الاتحاد الديمقراطي إلى توسيع منطقة سيطرته إلى خارج المناطق ذات الغالبية الكردية، والسيطرة على مناطق أوسع بكثير، والسيطرة على شمال وشرق سورية بكامله، ويندفع للسيطرة على محافظة الرقة، حيث لا وجود كرديا يذكر فيها سوى في ريف عين العرب على الحدود التركية، ولم يفلحوا في السيطرة على دير الزور، لأنها، كما يبدو، من حصة الروس والنظام، حسب اتفاقهم مع الأميركان. ولا أعلم كيف سيستطيع الحزب هضم الكتلة السكانية العربية التي تفوق أعدادها أعداد الأكراد، إلا إذا كانوا يخططون لاستقدام أكرادٍ من تركيا وايران.
كي تكون الصيغة مقبولة، فقد تخلى "بي يي دي" عن شعاره المحدود السابق "روج آفا" (منطقة الإدارة الكردية في شمال سورية)، وطرح شعار سورية الديمقراطية، وتحالف مع بعض العشائر العربية وبعض السريان، وبالطبع بقيت السيطرة والكلمة المطلقة للحزب. وهو يطرح الفيدرالية على غرار شمال العراق، ويتوقع أنه، بعد تحقيق هذه الخطوة، سيبدأ يوطد وجوده، ويتعاون مع إقليم كردستان العراق الذي يحضّر نفسه للاستقلال. وأن طموحات "بي دي يي"، في النهاية، أن يحوّل منطقة سيطرته من "سوريا الديمقراطية" إلى "كردستان الديمقراطية" بقيادته، وسيستغل أي ظرف مناسب ليقوم، هو الآخر، باستفتاء على الاستقلال، وإعلانه إن تمكن، ثم يسعى إلى إقامة اتحادٍ فيدراليٍ مع إقليم كردستان العراق الذي يكون قد أعلن استقلاله، وذلك ما لم تتغلب العقلية العشائرية الكردية على المصالح المشتركة، وخلافاتهم كثيرة منذ الآن.
وضمن منطق الواقعية السياسية، سيفعل الأكراد هذا كله وأكثر، طالما هم قادرون على فعله، فلا الحق ولا الباطل سينتصر بدون من ينصره، فالعراقيون مشغولون، والسوريون متقاتلون ومشرذمون، وليسوا قادرين على منع كيان كردي على منطقةٍ واسعة من شرق سورية وشمالها. هل نلوم الأكراد فيما يسعون إليه، ونقول إنه لا حق لهم في ذلك؟ نعم، ليس لهم حق في كل ما يفعلنوه، لكن ما نفع اللوم وما نفع هذا القول؟
المهم أن من يملك القوة لفعل شيء سيفعله، ومن يملك القوة على منع الآخر من فعل شيء سيمنعه، فالحق مع القوة، وما تفرضه القوة يصير حقًا ويفرض سمعة حسنة، ونعني بذلك "مركّب القوة" من عناصر ناعمة وأخرى خشنة. هذه هي القاعدة الذهبية، وهذه القاعدة/ الحقيقة ستزعج الضمائر الحية، لكن أصحاب القوة لا يهتمون بالضمائر، حية أم ميتة. هكذا كان التاريخ ويبدو أنه سيبقى كذلك.
سيقوم الأكراد باستفتاء على استقلال "كردستان العراق"، على الرغم من معارضة العالم، ونتيجته محسومة، مستغلين ضعف العراق وتشتته وانشغاله بصراعه الداخلي، وسورية مفتتة وهذا وضع مثالي. لكن هذا الكيان، بالطريقة التي يفرضونه بها سيكون مشروع حرب قادمة مستقبلا. ويغامر الأكراد، وهم يعلمون أنهم يغامرون، لكن نمو الشعور القومي الطاغي والجارف يجعل روح المغامرة يغلب على الواقعية السياسية، فلا يقدّرون المخاطر حقّ قدرها. ويُغريهم تحالفهم مع أميركا وإسرائيل على المضي في إعلان قيام دولتهم المستقلة، فتركيا تعد قيام دولة كردية مستقلة خطًأ أحمر، ولإيران الموقف نفسه، وهما قوتان إقليميتان، وقد تشنان حربًا على أي دولة كردية وليدة، لأن قيامها سيشجع انتفاضات كردية في كلا البلدين. وقد صوت برلمان العراق أخيرا ضد الاستفتاء المزمع تنظيمه في 25 سبتمبر/ أيلول الجاري، وهذا تخويل لحكومة حيدر العبادي بشن حرب لو أراد واستطاع، كما هدد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في خطاب له أخيرا. ويتقارب الموقفان الإيراني والتركي من موضوع قيام كيان كردي مستقل. كما بدأ التوتر بين نظام دمشق و"بي دي يي" الذي أصبح في موقع أقوى، وصارت حاجته لقوات النظام قليلة، بعد أن أصبح بحماية الأميركان. ولكن قيام دولة كردستان المستقلة في سورية أو العراق قد يدفع الدول الأربع لتتشارك في القضاء على الدولة الوليدة، ولن تستطيع الولايات المتحدة إنقاذها آنذاك.
ويبدو أن هذا الخطر لن يثني القيادات والنخب الكردية عن المضي في القتال السياسي والعسكري لإعلان استقلال دولتهم، وأن يضموا اليها أكبر مساحاتٍ ممكنة، وقد لا يردعهم موقف إيران أو موقف تركيا، وسينظرون إليه "جزءا من تقاليد الصراع وجزءا من ثمن قيام دولة كردستان المستقلة، وتستحق أن يُدفع أكثر". أو قد ينتظرون ظروفًا سانحة أخرى، ولا يغامرون إلى حدود إثارة أربع دول في المنطقة ضد الدولة المأمول ولادتها، خصوصا أن الولايات المتحدة طلبت صراحة إلغاء الاستفتاء على الاستقلال في إقليم كردستان العراق، إلا إذا كان هذا توزيعًا للأدوار، أي إعلان صحفي أميركي، ومن جهة أخرى تشجيع الأكراد للمضي في الاستفتاء، فإسرائيل تريد قيام دولة كردستان المستقلة.
لتبسيط المشهد المعقد، يمكن أن نلحظ توجهًا طاغيًا لدى القيادات والنخب الكردية، تختلط فيه الحماسة القومية الكردية بالطمع، فهي "فرصة الأكراد التاريخية"، فإن سنحت الفرصة اليوم قد لا تسنح غدا، أيا كانت المجازفة. أما توجه الواقعية السياسية بين هذه القيادات والنخب، ويبدو أنه التيار الأضعف الآن، فيدخل في حساباته عناصر أخرى، مثل عواقب الأفعال، ويرى الاكتفاء بإقامة حكم ذاتي في المناطق ذات الغالبية الكردية في كل من العراق وسورية "شراكة مع بقية شركائنا الذين عشنا معهم قرونًا كثيرة"، ومن ثم انتظار المستقبل. فأيهما سيفوز؟
مع خيبة أمل الأكراد بقيام دولتهم المستقلة على أنقاض السلطنة العثمانية، قاموا بتمرّدات عديدة في تركيا وإيران والعراق، لكن تمرداتهم تم قمعها بشدة. تحالفوا بداية مع السوفييت الذين دعموهم في جمهورية مهاباد في إيران في أربعينيات القرن العشرين، ودعموا تمردهم المسلح في شمال العراق في ستينياته. ومنذ سبعينياته، حوّل الأكراد تحالفهم إلى بريطانيا وأميركا.
أسست القيادات الكردية علاقة قديمة غير معلنة مع إسرائيل، منذ ستينيات القرن العشرين، وقد أخفوها في البداية بسبب ضعفهم وحساسية العرب من أي تعاون مع اسرائيل التي وجدت مصلحة قوية لها في دعم قيام "دولة كردية مستقلة"، لتكون مصدر إزعاج للعراق وسورية ولإيران وتركيا، ثم لأن دولة الأكراد ستكون محل تهديد دائم، ما يجعلها بحاجة كبيرة لدعم إسرائيل. ويلوم العرب الأكراد، بسبب علاقتهم المبكرة بإسرائيل، وتطوير هذه العلاقة والمجاهرة بها أخيرا، ولكن الأكراد وجدوا في إسرائيل منفعةً كبيرة ومصدرًا قويًا لدعمهم، خصوصا بما لها من نفوذ في أميركا... هل نعتبر سلوك الأكراد هذا خيانة للعرب؟ المسألة أن ما يهم الأكراد ليس الإخلاص للعرب أو خيانتهم، بل يهمهم قيام دولتهم.
أثمر تحالف الأكراد مع أميركا دعمًا لقيام كيانٍ شبه مستقل، بحكم الواقع في شمال العراق منذ 1991، حين أصبح صدّام حسين في وضعٍ صعب، بسبب غزو الكويت. ثم تحول هذا واقعا سياسيا أقره دستور عراقي، صيغ تحت وصاية سلطات الاحتلال الأميركي للعراق، والسيطرة الإيرانية على مقاليد السلطة فيه، وأصبح إقليم كردستان العراق جمهوريةً شبه مستقلة، تنتظر فرصة سانحة لكي تستقل كليًا.
وجد الأكراد في سورية فرصتهم السانحة بعد مارس/ آذار 2011، وانطلاق الانتفاضة، إذ اضطر النظام للعودة إلى أوراقه القديمة، والتحالف مع حزب الاتحاد الديمقراطي (فرع حزب العمال الكردستاني "التركي") لضبط المناطق الكردية، ومنعها من الانضمام إلى الحراك المعادي للنظام، ومَنَحَ النظام هذا الحزب كل ما يلزم من دعم مالي وسلاح ودعم لوجستي وإعلامي، وقد قام "الاتحاد الديمقراطي" (بي يي دي) بمهمته خير قيام، لكن غايته، كما "العمال الكردستاني" ومشروعهما في النهاية ليس حماية نظام دمشق، أيا كان هذا النظام، بل إقامة إقليم مستقل في شمال سورية، على غرار شمال العراق، وقد عمل من أجل هذه الهدف بنشاط، مستغلاً حاجة النظام وإيران وروسيا لخدماته.
حين برز تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قوة إقليمية ناشئة، بعد استيلاء مسلحيه على الموصل وأجزاء واسعة من شمال العراق وغربه، ومعظم شمال سورية وشرقها، وأصبح التنظيم الهاجس الأميركي الأول في المنطقة، استغل أكراد العراق المتحالفون مع الأميركان شعار محاربة "داعش" وسيطروا على مناطق إضافية من أرض العراق، مستغلين ضعف حكومة بغداد. كما استغل "بي دي يي" السوري تحالفه مع أميركا واستراتيجيتها لقتال داعش دون قتال النظام السوري، وحصل على دعم أميركي كبير.
بسبب تحالفه المتعدّد مع كل من النظام وأميركا وروسيا وإيران، طوَّر "بي دي يي" مهامه وطور قواته التي باتت تقدر اليوم بنحو 40 ألف مقاتل، جاء جزء كبير منهم من تركيا وإيران والعراق، شاركوا مع جيش النظام ومليشياته في قتال المعارضة، وفرض هذا الحزب، بقوة السلاح، في مناطق سيطرته مؤسساتٍ قيام كيان كردي شبه مستقل، ضاربًا بعرض الحائط مصالح (وإرادة) غالبية سكان تلك المناطق من عرب وسريان وحتى الأكراد، مستغلاً الدعم الأميركي وظروف الصراع في سورية، وغياب سلطة دمشق وحاجتها اليه.
اندفع حزب الاتحاد الديمقراطي إلى توسيع منطقة سيطرته إلى خارج المناطق ذات الغالبية الكردية، والسيطرة على مناطق أوسع بكثير، والسيطرة على شمال وشرق سورية بكامله، ويندفع للسيطرة على محافظة الرقة، حيث لا وجود كرديا يذكر فيها سوى في ريف عين العرب على الحدود التركية، ولم يفلحوا في السيطرة على دير الزور، لأنها، كما يبدو، من حصة الروس والنظام، حسب اتفاقهم مع الأميركان. ولا أعلم كيف سيستطيع الحزب هضم الكتلة السكانية العربية التي تفوق أعدادها أعداد الأكراد، إلا إذا كانوا يخططون لاستقدام أكرادٍ من تركيا وايران.
كي تكون الصيغة مقبولة، فقد تخلى "بي يي دي" عن شعاره المحدود السابق "روج آفا" (منطقة الإدارة الكردية في شمال سورية)، وطرح شعار سورية الديمقراطية، وتحالف مع بعض العشائر العربية وبعض السريان، وبالطبع بقيت السيطرة والكلمة المطلقة للحزب. وهو يطرح الفيدرالية على غرار شمال العراق، ويتوقع أنه، بعد تحقيق هذه الخطوة، سيبدأ يوطد وجوده، ويتعاون مع إقليم كردستان العراق الذي يحضّر نفسه للاستقلال. وأن طموحات "بي دي يي"، في النهاية، أن يحوّل منطقة سيطرته من "سوريا الديمقراطية" إلى "كردستان الديمقراطية" بقيادته، وسيستغل أي ظرف مناسب ليقوم، هو الآخر، باستفتاء على الاستقلال، وإعلانه إن تمكن، ثم يسعى إلى إقامة اتحادٍ فيدراليٍ مع إقليم كردستان العراق الذي يكون قد أعلن استقلاله، وذلك ما لم تتغلب العقلية العشائرية الكردية على المصالح المشتركة، وخلافاتهم كثيرة منذ الآن.
وضمن منطق الواقعية السياسية، سيفعل الأكراد هذا كله وأكثر، طالما هم قادرون على فعله، فلا الحق ولا الباطل سينتصر بدون من ينصره، فالعراقيون مشغولون، والسوريون متقاتلون ومشرذمون، وليسوا قادرين على منع كيان كردي على منطقةٍ واسعة من شرق سورية وشمالها. هل نلوم الأكراد فيما يسعون إليه، ونقول إنه لا حق لهم في ذلك؟ نعم، ليس لهم حق في كل ما يفعلنوه، لكن ما نفع اللوم وما نفع هذا القول؟
المهم أن من يملك القوة لفعل شيء سيفعله، ومن يملك القوة على منع الآخر من فعل شيء سيمنعه، فالحق مع القوة، وما تفرضه القوة يصير حقًا ويفرض سمعة حسنة، ونعني بذلك "مركّب القوة" من عناصر ناعمة وأخرى خشنة. هذه هي القاعدة الذهبية، وهذه القاعدة/ الحقيقة ستزعج الضمائر الحية، لكن أصحاب القوة لا يهتمون بالضمائر، حية أم ميتة. هكذا كان التاريخ ويبدو أنه سيبقى كذلك.
سيقوم الأكراد باستفتاء على استقلال "كردستان العراق"، على الرغم من معارضة العالم، ونتيجته محسومة، مستغلين ضعف العراق وتشتته وانشغاله بصراعه الداخلي، وسورية مفتتة وهذا وضع مثالي. لكن هذا الكيان، بالطريقة التي يفرضونه بها سيكون مشروع حرب قادمة مستقبلا. ويغامر الأكراد، وهم يعلمون أنهم يغامرون، لكن نمو الشعور القومي الطاغي والجارف يجعل روح المغامرة يغلب على الواقعية السياسية، فلا يقدّرون المخاطر حقّ قدرها. ويُغريهم تحالفهم مع أميركا وإسرائيل على المضي في إعلان قيام دولتهم المستقلة، فتركيا تعد قيام دولة كردية مستقلة خطًأ أحمر، ولإيران الموقف نفسه، وهما قوتان إقليميتان، وقد تشنان حربًا على أي دولة كردية وليدة، لأن قيامها سيشجع انتفاضات كردية في كلا البلدين. وقد صوت برلمان العراق أخيرا ضد الاستفتاء المزمع تنظيمه في 25 سبتمبر/ أيلول الجاري، وهذا تخويل لحكومة حيدر العبادي بشن حرب لو أراد واستطاع، كما هدد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في خطاب له أخيرا. ويتقارب الموقفان الإيراني والتركي من موضوع قيام كيان كردي مستقل. كما بدأ التوتر بين نظام دمشق و"بي دي يي" الذي أصبح في موقع أقوى، وصارت حاجته لقوات النظام قليلة، بعد أن أصبح بحماية الأميركان. ولكن قيام دولة كردستان المستقلة في سورية أو العراق قد يدفع الدول الأربع لتتشارك في القضاء على الدولة الوليدة، ولن تستطيع الولايات المتحدة إنقاذها آنذاك.
ويبدو أن هذا الخطر لن يثني القيادات والنخب الكردية عن المضي في القتال السياسي والعسكري لإعلان استقلال دولتهم، وأن يضموا اليها أكبر مساحاتٍ ممكنة، وقد لا يردعهم موقف إيران أو موقف تركيا، وسينظرون إليه "جزءا من تقاليد الصراع وجزءا من ثمن قيام دولة كردستان المستقلة، وتستحق أن يُدفع أكثر". أو قد ينتظرون ظروفًا سانحة أخرى، ولا يغامرون إلى حدود إثارة أربع دول في المنطقة ضد الدولة المأمول ولادتها، خصوصا أن الولايات المتحدة طلبت صراحة إلغاء الاستفتاء على الاستقلال في إقليم كردستان العراق، إلا إذا كان هذا توزيعًا للأدوار، أي إعلان صحفي أميركي، ومن جهة أخرى تشجيع الأكراد للمضي في الاستفتاء، فإسرائيل تريد قيام دولة كردستان المستقلة.
لتبسيط المشهد المعقد، يمكن أن نلحظ توجهًا طاغيًا لدى القيادات والنخب الكردية، تختلط فيه الحماسة القومية الكردية بالطمع، فهي "فرصة الأكراد التاريخية"، فإن سنحت الفرصة اليوم قد لا تسنح غدا، أيا كانت المجازفة. أما توجه الواقعية السياسية بين هذه القيادات والنخب، ويبدو أنه التيار الأضعف الآن، فيدخل في حساباته عناصر أخرى، مثل عواقب الأفعال، ويرى الاكتفاء بإقامة حكم ذاتي في المناطق ذات الغالبية الكردية في كل من العراق وسورية "شراكة مع بقية شركائنا الذين عشنا معهم قرونًا كثيرة"، ومن ثم انتظار المستقبل. فأيهما سيفوز؟