العملية التي أدت إلى مقتل 13 شخصاً (بينهم شخص لم يتمّ التعرّف إليه) وجرح 20 آخرين، جعلت رئيس الحكومة الحبيب الصيد يعتبر، أمس الأربعاء، أن "العملية كانت خطيرة جداً وتستهدف ضرب أركان الدولة، من خلال استهداف مؤسسة الرئاسة، على بعد 200 متر فقط من وزارة الداخلية".
ويُمكن تبيان رسائل عدة من العملية، أولها، إثبات المنفّذين قدرتهم على الوصول إلى أكثر الأماكن حساسية في البلاد، واستهدافهم الأمن الرئاسي، الذي يُعتبر الأكثر جاهزية وحذراً، على الرغم من أن أفراد المجموعة كانوا في حالة تراخٍ ظاهرة، ويستعدّون للصعود إلى حافلة تنقلهم إلى مقرّات عملهم. الرسالة والتحوّل الأكبر في هذا الاعتداء، يتمثل في قرار الإرهابيين استهداف المدنيين هذه المرة، من دون تمييز، فتوقيت العملية (ما بين الخامسة والسادسة مساءً بالتوقيت المحلي) يُعتبر لحظة الذروة التي يلتقي فيها عشرات آلاف التونسيين في الطرقات، بعد انتهاء مواعيد الدراسة والدوام الإداري. كما أن مكان الحادثة يُعدّ الأكثر ازدحاماً في ذلك التوقيت، ما كان يمكن أن يتسبّب بكارثة، لكنها أدّت إلى جرح أربعة مدنيين، حالتهم مستقرّة، بحسب وزير الصحة سعيد العايدي. كما أظهرت العملية تشابهاً مع عمليات تحصل في العراق، لتضع السلطات أمام فرضيتين: إما أن يكون هناك اختراق أمني من الداخل، أو أن المنفّذين نجحوا في التسلل، لارتكاب الاعتداء، الذي تمّ باستخدام 10 كيلوغرامات من المتفجّرات.
لم تكن نيّة استهداف المدنيين، الأولى من نوعها، فقد سبقها ذبح الطفل الراعي مبروك السلطاني (16 عاماً)، في 13 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي. كما أن الكشف عن مخططات سوسة، الأسبوع الماضي، أظهر مدى استعداد المسلّحين لاستهداف مدنيين وشخصيات عدة، من بينها الرئيس السابق منصف المرزوقي، وضرب منشآت اقتصادية في مدن مختلفة، وفي توقيتٍ متزامن لحصد أكبر عدد من الضحايا، وبثّ الرعب في نفوس التونسيين، وضرب أركان الدولة وإضعافها.
اقرأ أيضاً رئيس الحكومة التونسية: سنطبق قانون الاٍرهاب بكل صرامة
ويبدو أن الهدف الأول للإرهابيين في هذه المرحلة، يتمثل في محاولة ترهيب التونسيين، على اعتبار أن العمليات لم تتوقف منذ سنوات، علماً أنها طاولت شخصيات وجنودا وأمنيين، قُتلوا بأساليب مشابهة لأساليب تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، مثل قطع الرؤوس.
وتكشف المعلومات المتواترة، بعد القبض على مجموعة سوسة وشبكات التسفير إلى أماكن الصراع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أن هناك تركيزاً واسعاً على تونس، يُخطط له من ليبيا بالذات، وربما عبر سورية أيضاً. ويُنفّذ المخطط من طرف بعض العائدين من سورية، وعددهم وفق تصريحات رسمية يقارب الـ500 عنصر، فضلاً عن وجود بعض الخلايا التي تمّ تجنيدها على شبكات التواصل الاجتماعي. ومن المؤكد أن هذه المجموعات تملك خبرة كبيرة وإمكانات تكنولوجية واضحة في المراقبة وجمع المعلومات والاتصالات والتفخيخ.
وقد أجمع مختلف زعماء الأحزاب التونسية على "تاريخية اللحظة التي تفرض إجماعاً وطنياً، حول استراتيجية متكاملة لمقاومة الاٍرهاب". غير أن "مؤتمر مكافحة الإرهاب"، الذي كان يُفترض أن ينظر في مخطط كهذا، تمّ تأجيله مرتين، ثم إلى أَجَل غير محدّد بسبب وجود تباينات سياسية واضحة، يُخشى أن يُستغل المؤتمر بسببها لتصفية حسابات سياسية والخروج منه إلى وضع أكثر انقساماً وخلافاً.
غير أن الأمين العام لاتحاد الشغل حسين العباسي، يُعرب في حديثه مع "العربي الجديد"، عن استعداد منظمته لـ"الشروع في حوار وطني حول مكافحة الإرهاب، ينطلق من ميثاق مُسبق يوافق عليه جميع الأطراف". وتبدو المنظمة النقابية، الأكثر جهوزية لإدارة مثل هذا الحوار المعقّد.
غير أن الغطاء السياسي الضروري للرعاية النقابية، ينبغي أن يكون مسانداً "لخطة حرب حقيقية على الاٍرهاب"، لم تكن موجودة سابقاً، وتستوجب من الدولة والمنظمات والأحزاب إعادة ترتيب الأولويات الوطنية ووضع بند "مقاومة الاٍرهاب" على رأسها. ويعتقد الزعماء السياسيون التونسيون، أن ضربة الثلاثاء نقلت المعركة مع الإرهاب إلى مستوى آخر، لم يعد ممكناً معه أن يجري التعامل مع الإرهابيين على شكل معالجات أمنية يومية، تتولّى وزارتا الداخلية والدفاع مسؤوليتهما منفردة.
في هذا السياق، يشير زعيم "حركة النهضة" راشد الغنوشي، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، إلى أنه "كنّا في كل مرة نقول إن العملية تستهدف إما أطرافا أمنية أو سياسية أو سياحية، لكن ما حدث في العاصمة، ينبّه إلى أن الجميع معني بهذه الحرب الشاملة التي تضرب الجميع، وقد حان وقت المعالجة من كل النواحي الأمنية والسياسية والثقافية والدينية والإعلامية والاجتماعية. ولا بدّ من ضرب هذه المجموعات الضالّة والشيطانية بيد موحّدة وطنياً".
ويطرح موضوع "الحرب الشاملة" أسئلة عدة حول الجهوزية المادية والبشرية لقوات الأمن والجيش والجمارك، لارتباط الاٍرهاب بالتهريب بشكل مباشر في بعض الأحيان. كما يدرك الجميع أن ضرب خطوط الإمداد يتطلّب إمكانات لوجستية وبشرية كبيرة، تنبّه لها قانون المالية للسنة المقبة، بعد أن تقرّر تخصيص مبالغ لرفع ميزانية وزارتي الداخلية والدفاع.
وكان وزير الداخلية ناجم الغرسلي، قد أعلن قبل أيام في مجلس نواب الشعب، عن قرار زيادة الميزانية المخصّصة لوزارة الداخلية لعام 2016 بنسبة 7 في المائة، مقارنة بميزانية عام 2015. وسيتم تخصيص هذه الزيادة لدعم تجهيزات قوات الأمن بالمدرّعات والأسلحة المتطورة، وتكوين وتدريب 5500 رجل أمن جديد.
ولم تكن هذه الزيادة، الأولى من نوعها في ميزانية الوزارتين، بل تحصل للعام الثالث على التوالي، ما جعلها تتجاوز للمرة الأولى في تاريخ تونس ميزانية وزارة التربية، التي كانت على رأس كل الوزارات منذ الاستقلال عن فرنسا (1956). وستستأثر الوزارتان بحوالي 20 في المائة من مشروع ميزانية تونس للعام المقبل، بعدما تمّ رصد نحو 2.5 مليار دولار لهما.
وعلى الرغم من نجاح العمليات الاستباقية في تفكيك أكثر من مائة خلية إرهابية وإحالة 1300 متهم في قضايا إرهابية إلى القضاء، ما يعكس جهداً جبّاراً لجهاز الاستخبارات، إلا أن عدداً من القضايا الهامة لم تُحسم بعد على المستوى الأمني. وتواجه وزارة الداخلية مسؤولية مراقبة أكثر من 500 عائد من بؤر التوتر، تتعالى أصوات كثيرة داخل تونس بضرورة إيجاد خطة جديدة للتعامل معهم.
وعلى الرغم من أن كل عمليات سبر الآراء بيّنت منذ سنوات، أن التونسيين يضعون الأمن على رأس أولوياتهم قبل العمل ومعالجة مسألة ارتفاع الأسعار، فإن مؤسسات الدولة لم تُبْدِ الحزم اللازم في معالجة هذه الظاهرة قبل استفحالها بالشكل الحالي، وربما تأتي تصريحات رئيس الحكومة أمس حول التطبيق الصارم لقانون الاٍرهاب، لتعكس بداية تغيير جديد في أسلوب مؤسسات الدولة في التصدي لهذا الخطر.