كثيرة هي الأفلام التي خرجت لتصور معاناة الحرب وقسوة الحصار، وغالباً ما كانت تجليات القهر والخراب والمبانِ المهدّمة مع أصوات الانكسار والخيبة والوجوه اليائسة من أساسيات نقل المأساة سينمائياً.
إلا أن "حصار" مخيم اليرموك القادم من قلب الواقع ، ليس واحداً منها.الفيلم الذي أنجز خلال أربعة أشهر، بعد أن تلقى مخرجوه المحاصرون في المخيم تدريباً عبر سكايب عن كيفية صنع الأٌفلام، لا يهدف إلى صدم المشاهد أو استجرار عاطفته، بل يدعوه إلى مشاركة سكان المخيم المحاصرين تفاصيل حياتهم اليومية، على نفس درجة القرب والحميمية التي يتشارك بها سكانه تلك التفاصيل.
أربع حكايات متعاضدة تشكل شريط "حصار". دانا، بطلة الحكاية الأولى، تُحايل صغر حجمها ونحول جسدها لتحمل غالونات من المياه وتفرغها وتعيد تحميلها على عربة صغيرة، باحترافية من عهِد القيام بهذه المهمة لمدة طويلة.
لن تتحدث دانا ولن تخبرنا عن أحلامها الضائعة أو طفولتها التي حوصرت مع المخيم فأٌجبرت على حمل دلاء الماء بدلاً من اللعب أو الدراسة.
لكنك إن أنصتّ جيداً ستسمع: نهنهات خافتة، رائحة برد في المفاصل، صوت أنفاسٍ قصيرة تُحبس لرفع تلك الدلاء الثقيلة وإنزالها. نهنهات لا بد وأن تذكّرك بأن دانا هنا، بكل وعيها ووجودها، تتنفس وتجهد هنا، حيّة، عازمة، في وسط كل ذلك الرمادي القاتم.
عنوان الحكاية الثانية "أمبير" دالّ على مضمونها، إذ تفتح لنا الكاميرا المثبتة جانباً، نافذة صغيرة على إحدى الدقائق المفصلية في يوميات المخيم، قبل مجيء التيار الكهربائي وبعده مباشرة.
في خضم حركة الشبّان فور عودة التيار، وبحثهم عن شواحن الهاتف وجمعهم لثياب الغسيل، سيطغى صوت شاب يسأل عن آلة الحلاقة، بإلحاح لافت، لابد وأن يستثير في المشاهد شيئاً يشبه الأمل، إذ أنه وتحت حصار لا يرحم، في حياة لم تعد جديرة باسمها، لا يزال شاب، في مخيم اليرموك، يسأل عن آلة الحلاقة ليحلق ذقنه.
"يرموك-كراجات" هو القسم الوحيد الذي يرافقه صوت راوٍ، يستذكر ويذكّرنا، من داخل ميكروباص متفحم، بطريق كان يصل في ماضٍ بعيد بين المخيّم وكراجات دمشق، التفاصيل المحكيّة هنا أكثر تأثيراً من المرئية، إذ لا يسعك إلا أن تميّز الروائح التي يتحدث عنها الشاب، وتسمع ضوضاء السرفيس وترى ركابه، في لحظات نوستالجيا تطغى بصفائها على صور السرفيس الفارغ وكراسيه المهشمة.
في الحكاية الرابعة والأخيرة يتحدث اللون أكثر من أي شيء آخر، لون أخضر ينضح بالحياة يكاد يُلهي المشاهد عن أصوات القصف البعيدة، نكتشف لاحقاً بأنه لأوراق نبتة الفجل المزروعة بين الأبنية، حقول صغرى يتوزع فيها سكان المخيم، شباباً وصغاراً، منهم من يقطفها ليوصلها لسيدة تنتظر، ومنهم من يأكل منها، وطفلة لم تتجاوز الخامسة تجمع الأوراق بيديها الصغيرتين لتضعها في جيبها، وهي ترقب البقية بعيون تختصر لربما ما يريد الفيلم إيصاله بالأغنية التي سنسمعها في النهاية "ولاد الأرض السمرا، جاعوا وما باعوا".
ذات الرسالة السابقة، تُرجمت بعبارات واضحة خُطّت على جدران المخيم "صحيح ما عنا أكل، بس عنا كرامة".
لا يختصر فيلم "حصار" حالة المخيم، أو يحاول توثيقها، إذ أن الواقع المعاش هناك عصيّ على أن يُختصر أو يُنقل ولو بساعاتٍ من التوثيق. إلا أنه وبدقائقه التسع الممتدة بين الرمادي والأخضر، البارد والمشمس، يقترب كثيراً من ملامسة الروح التي تسكن مخيم اليرموك، بقاطنيه وأهله وأبناءه.
الروح ذاتها التي دفعت صانعي الفيلم الشباب لإتمامه، رغماً عن مأساوية الواقع الذي شهد اغتيال أحد صناعه واستشهاد أحد مخرجيه، وترك باب المجهول مفتوحاً لمصير البقية من شبابه.
"حصار" من إخراج عبد الله الخطيب، ضياء يحيى، مؤيد زغموت، براء نمراوي، جمال خليفة، محمد سكري، وسيم منور، عبد الرحمن سليم، عمر عبد الله، نوار اليوسف. وإنتاج "بدايات" بالتعاون مع شركة "وتد".