في مدينة كالقاهرة، شديدة الازدحام بالناس والمركبات، أصبحت حركة التنقل أزمة يومية ومحنة يعيشها المواطن. وحين شاع الـ"توك توك" كوسيلة مواصلات، أصبح من الوسائل الدارجة واليومية التي يلجأ إليها الناس في العاصمة المصرية.
من جهة، حلّت هذه العربة الصغيرة ذات الإطارات الثلاث شيئاً من مشاكل الازدحام وصعوبة التنقل، رغم أنها تتّسع لشخصين فقط. ومن جهة أخرى، وفّرت فرص عمل لآلاف الشباب الذي يعتمدون عليها ويعيشون من دخلها.
من هنا، يتناول المخرج المصري روماني سعد (1974)، في فيلمه الوثائقي الجديد "توك توك" (2015، 75د)، حركة سير هذه العربات في شوارع العاصمة المصرية ومناطقها العشوائية، من خلال تتبّع الحياة اليومية لثلاثة سائقين يجمعهم صغر سنهم، إذ لم يتجاوز أكبرهم السادسة عشرة.
وأثناء مهمته تلك، يرصد صاحب الفيلم الروائي القصير "برد يناير" (2012)، الحياة اليومية للأطفال، جاعلاً منها أساساً لشريطه الوثائقي. ويرسم من خلالها صورة عامة لشريحة كبيرة من المُفقرين في أم الدنيا، حيث الفاقة تسدّ الأفق أمام كثير من أطفالها في الحصول على فرص التعليم والتفكير في المستقبل.
سرعان ما يكبر الأطفال في تلك المناطق التي يزورها المخرج بكاميرته التسجيلية، فما إن ترتفع قامتهم قليلاً عن الأرض، حتى يأخذ آباؤهم قروضاً صغيرة ليشتروا بها عربة "توك توك" لأطفالهم يقودونها في ساعات عمل طويلة لزيادة دخل الأسرة، التي تُنسيها لقمة العيش ما ينتظر صغيرها في شوارع هذه المدينة الضخمة، أو كيف سيكبر وحده في أزقتها.
خلال رحلة المخرج مع أبطاله الثلاثة، بيكا وعبدالله وشارون (لقب يطلق على الأخير بسبب مشاغباته وعدوانيته)، يفاجئ الأطفال وذووهم المتفرج بوعيهم، وفهمهم للأسباب الحقيقية التي تقف خلف بؤسهم، وإدراكهم للقهر والظلم الطبقي ونظرتهم لمفهوم العدالة الاجتماعية.
تنتقل الكاميرا مع عربات التوك توك لتقدّم صورة الصخب القاهري والموسيقى الشعبية والأسواق وواجهات المحلات وابتسامات شخصيات العمل للمارّة، على نحو يوحي بتوطّد علاقتهم مع الشارع. ثم تقف الكاميرا أحياناً لتدير مشاهد الحوار مع الأولاد والآباء، الذين نفهم من كلامهم أن هذا العمل خيارهم الأخير قبل الاضطرار إلى التوجه نحو الجريمة والسرقة وتجارة المخدرات.
المفارقة أنهم لا يتحدثون عن الجريمة بوصفها سلوكاً منحرفاً بقدر ما يرونها صناعة سياسية بامتياز. الأمر السابق يظهر جلياً في قلب حوارات أبطال الفيلم وحديثهم عن الفساد التعليمي والإداري وتفشي الرشوة وخراب مؤسسة الشرطة.
كل هذا في ظل غياب العدالة الاجتماعية التي تتحدث عنها شخصيات الفيلم كثيراً بسخرية مريرة. وهو ما يمكن أن نلحظه أيضاً في حديث أحد الآباء عندما يشير إلى أن التغيير يبدأ من الأعلى، وأن حالة البؤس هذه تحتاج إلى قرار سياسي، بالدرجة الأولى، لإنهائها.
يشكل ازدحام المدينة بالبشر والسيارات والعاطلين من العمل خلفية بصرية للفيلم، يتجوّل الـ"توك توك" على أطراف وهوامش هذه الخلفية المسكونة بأصوات أبواق السيارات وغلاء الأسعار، إلى درجة تجعل شابين يقتحمان أحد كوادر الفيلم ويصرخ أحدهما: "ها أنا أتعاطى، ماذا أفعل؟ أتمنى أن يصل صوتي".
لا يبدو مستقبل الأطفال الثلاثة أفضل حالاً من واقع الشابين اللذين تكلما أمام الكاميرا، إذ نراهم آخر الفيلم وبعد مرور الكاميرا أمام أحد الاعتصامات، يتعاطون مخدرات داخل عرباتهم الصغيرة، وفي الخلفية تصدح أضواء وموسيقى أحد الأعراس، وكأن الفيلم يريد أن يقول إن شيئاً لم يتغيّر بالنسبة لمُفقري مصر وأطفالها.