"تم الدعس" ... خطاب سوري جديد

29 ابريل 2014

Gustav Dejert

+ الخط -
ثمة حرب أخرى مخفية، خلف الحرب الظاهرة التي لا تزال في الجسد السوري، منذ أكثر من ثلاث سنوات، إنها حرب (السايبر) التي لا يمر يوم إلا وتترك خلفها ضحايا من المواقع الإلكترونية، أو صفحات التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت، في سورية وخارجها. وإذا كان هناك احتمال أن تعرف من يوجه تلك الحرب الظاهرة، فإنك تحار، أحياناً، في معرفة من يوجّهها، ولصالح مَن يتمّ توجيهها، أو توجيه رسائلها، أو الهدف منها في أحيانٍ أخرى، خصوصاً لدى استعراض بعض ضحاياها. ويحصل، بعد اطلاعك على الصفحات المستهدفة، أن تخرج بانطباع أن هدف من يشلون تلك الصفحات، أو قراصنتها (مُهَكِّريها)، أن يطبعوا في ذهنك رسالةً يتركونها على تلك الصفحات: "تم الدعس"، لكن أمراً واحداً يبقى لديك، هو أن خطاباً سورياً جديداً أخذ يشيع لدى سوريين كثيرين، معارضين وموالين، في ممارسات يقومون بها، من دون أدنى تقدير لنتائجها أو لعوائدها، صغيرة كانت أم كبيرة.
لا ينقص المواطنَ السوريَّ شيءٌ ليدل على حاله، ويقول له إن حياته تم "دعسها"، لكي تأتي تلك الرسائل، وتؤكد له ذلك، إن تناسى. هو، منذ حظيت بلاده باستقلالها عن الأجنبي، وقع تحت نعال أبناء جلدته، قتلاً أو سجناً أو نفياً أو إفقاراً وقهراً، أو حتى مصادرة لمستقبله. لكن، في هذه الأيام، وفي ظل هذه الحرب التي تضرب في البلاد كلها، تنتشر ثقافة "الدعس"، لتطال الجميع ممن هم في خضم الحرب، أو خارج مدى نيرانها المباشرة، حيث أن "داعس" اليوم قد يصبح "مدعوساً" في الغد، وقد يتغير الحال في اليوم الذي يليه، وتنقلب الصورة، فيتحول الـ "مدعوسُ" إلى "داعسٍ". ومن لم يَطـَلـْهُ أذى الحرب وآثارها، تُشنُّ هذه الهجمات "السايبرية"، لتصيبه بشرورها.
هذا ما يخطر على البال، حين تجد أن جمعيةً أهليةً صغيرةً تُعنى بأمور الثقافة والتراث في محافظتها تمت قرصنة صفحتها على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، مع وضع الشعار الجديد الذي عرف انتشاراً كبيراً، منذ بدء الحراك الشعبي في سورية، والذي يستخدمه طرفا النزاع على السواء، كختم يفيد بأنه "تم الدعس" على صفحةٍ، لا تقدم سوى مواعيد وأسماء وتعليقات، مما يدفعنا إلى سؤال: ما مغزى هذا الفعل، ولصالح من يجري، وما النتائج المرجوة منه؟ وهل أصبح القيام بأدنى النشاطات المدنية، مثل قراءة الشعر أو إقامة حلقة نقاش بشأن التراث، في ظل تدمير التراث، يشكل تهديداً، أو خطراً، على فريقٍ لا يتوانى عن فعل ما يريد، لمجرد أنه قادر عليه، من دون أدنى رادع، أو اهتمام بتبعاته؟
قد يستهين كثيرون بمناقشة موضوعٍ كهذا، في وقتٍ تُرتكب فيه كل الفظاعات بحق الإنسان في سورية، وبحق البلاد بشكل عام. لكن الانطباع الذي يتكون لديك، عندما تقع عيناك على شعار القرصنة، وعند رؤية الأسى في عيون القائمين على الجمعية، الحائرين في تحديد الفاعل، يؤكد أن العبث الذي طال كل شيء في سورية أخذ يتجذّر، ويدخل في مراحل، يبتلع في تطورها كل شيء من حياة بشرٍ، أو من أمكنةٍ، أو تواريخ، ويحيلها إلى عدم. ويؤكد، أيضاً، أن العابثين دخلوا في أطوارٍ، لم يعودوا فيها قادرين على فعل شيء، أو أنهم عاجزون عن تحقيق شيءٍ ملفت، فأخذوا يبحثون عن جوانب وزوايا لم يطرقوها، ليذكِّروا أشخاصها، أو ضحاياها، بأنهم ما زالوا "مدعوسين".
إن كان لأي خطاب من هدف، فهو إيصال رسالةٍ ما، لفظيةٍ أم إيحائية، لتحقيق غرضٍ عادة ما يكون محدداً، لكن هذا الخطاب السوري الجديد لا يحمل أي تحديد في مضمونه، ما يجعله أقربَ إلى التخبط العشوائي. وهو لا يفعل شيئاً سوى تأكيد المؤكد، لدى مواطنٍ لا يحتاج إلى أي فعلٍ، عشوائياً أم منظَّماً، لكي يثبت له، أو يعيد تذكيره، بأنه ما زال تحت السيطرة ولو كانت "سايبرية".
 
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.