"تقرير عن غباء الشر"... مع الاعتذار لحنة أرنت

03 مايو 2017
+ الخط -
في احتجاجات إضراب المعلمين، قبل سنة على ما أعتقد أو أكثر، خرج آلاف المتظاهرين في مشهد لم تعرف رام الله مثله من زمان. مشهد أغراني وأصدقائي، وإن لم يكن أي منا معلماً. قلنا إن هذه فرصة حقيقية للتظاهر، في وقت صارت الأجهزة الأمنية فيه تكتفي بتخويف الناس من أن نصير مثل سورية وليبيا فتفرقهم، بدون حاجة إلى طلقة واحدة أو قنبلة غاز.


قررنا أنها فرصة نادرة جداً ولا تفوت. فرصة حقيقية لاختبار معنى التظاهر، الذي لم نعرف منه سوى وقوف ممل في تجمعات لا تزيد عن 10 أشخاص على دوار المنارة.

كنت وأصدقائي مندفعين، ولم نكن نعرف على الحقيقة ما هي مطالب المعلمين، لكننا كنا مقتنعين بها تمام الاقتناع، ومتأكدين أنها عادلة. في الأول، شكلنا مجموعة لوحدنا، وتقدمنا أحد الأصدقاء المعروف بحفظه للشعارات وقدرته على ترديدها، (وهذه هنا ميزة تشبه ميزة أن تكون ابن عائلة إقطاعية قديمة، ترتبط بك وباسمك وإن لم يعد هناك أراض تقتطع. ولا مظاهرات يهتف فيها). المهم، عندما تعب تقدمت أنا. كنت أصرخ شاعراً نفسي قائداً في معركة حاسمة، تتحدد بعدها مصائر البلاد والعباد.

التحق بمجموعتنا بعض المعلمين، وصاروا يرددون نفس شعاراتنا. الأجهزة الأمنية تحيط بالمكان. كان مشهداً ساحراً،  لولا أن ابن عمتي محمد، بطريقته المعروفة في تنغيص الأشياء، أفسده. خرج من جيب الأجهزة الأمنية، بزي عسكري كامل، ونادى عليّ بـ"اسم الدلع" وحياني.

تحول الجد كله إلى هزل، وانهارات كل أفكاري الكبرى عن الأجهزة الأمنية فجأة، الذين كنت أهتف ضدهم قبل دقائق. تعرفون، أقل الناس حظاً هم أولئك الذين لا يجدون حتى أعداء جديين. ولم تكن شتائم المعلمين، الذين رأوني متواطئاً، أكبر الأضرار. الأقسى أن المعركة الكبيرة، التي كنت شاعراً نفسي داخلها، صارت مثلها مثل أي شجار مع أقارب ثقيلي دم في الحارة.

وعلى عكس ما يُتوقع من شخص يعمل معظم أقاربه في الأجهزة الأمنية، فإنني كنت أتمنى أن أرى فيهم رجال أمن حقيقيين وحازمين وأصحاب خطط كبرى، كما يظن أي شخص بعيد يشاهدهم على التلفزيون. هذا طبعاً، حتى لا تفسد كل معاركي الكبرى. قال لي صديق مرة، إنه يضحك عندما يقرأ كتاب بورديو "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول"، الذي يصف في جزء منه دور السلطات الممنهج في استخدام الإعلام، لأنه ببساطة يعمل في التلفزيون الرسمي، ويعرف أن الأمور تسير سبهللا.

لم تكن تعنيني تناقضات، أنني أعيش على خصام كامل مع السلطة وأجهزتها، مع أنني من عائلة تعتاش على وجودها. التناقض الأهم، كان بين الشعارات التي أرددها وأسمعها في جلسات الحزب والمؤتمرات، عن صناع القرار وعن خطط السلطة الكبرى، وأعود إلى البيت فأجد "ًصناع القرار" أقل شأناً وذكاء مما نتخيل. وأجد أكبر مشاريعهم ومخططاتهم تتعلق بلعبة طرنيب.

 لم تعطنا السلطة، حتى أعداء يستحقون شعاراتنا.

قررت مرة، أن أعتمد على فكرة حنة أرنت، "الشر العادي"، في تفسير هذه الظاهرة. قلت إن الأشرار عاديون دائماً، ونحن مخطئون عندما نصورهم كما تصورههم الرسوم المتحركة، شياطين يقهقهون طول الوقت. الأشرار عاديون، يلعبون الورق والشطرنج، وينزعجون لأيام عندما تخسر فرق كرة القدم التي يشجعونها. لكن مع ذلك، وحتى حنة أرنت وفكرتها، عجزتا أمام هذا النموذج.

الفكرة الوحيدة التي تنجح في تفسير ذلك، وللأسف، هي أن الشر ليس عادياً لكنه غبي. ما يفسر هذه الحالة هو غباء الشر فقط لا عاديته. مع الاعتذار للأقارب ولحنة أرنت طبعاً.