اعتذار متأخر إلى ماكس فيبر
لم نعرف عالم الاجتماع الألماني إلا باعتباره ملحقاً لكارل ماركس، أو باعتباره النموذج الخطأ الذي يحتاجه الأساتذة والطلاب للإشارة إلى صحة التحليل الماركسي. لم نقرأ أياً من نصوص فيبر على الإطلاق، ولكننا قرأنا ردوداً ماركسية عليها من دون أن نقرأها. هكذا تعرفنا على الرجل، وهكذا ظلمناه وظلمنا أنفسنا.
اكتشفت لاحقاً، أن المشكلة لم تكن تخصنا وحدنا، ولا تخص جامعتنا أو أساتذتنا. عندما بحثت ووجدت أن المحتوى العربي على الإنترنت عن فيبر قليل جداً، وأن معظمه يقع في نفس مغالطة إلحاقه بماركس والماركسية، فهمت أن المشكلة أعم وأعقد من مجموعة من الأساتذة الماركسيين الذين يريدون فرض رؤيتهم على الطلاب.
كان فيبر، بالنسبة لنا، الفيلسوف الذي يتمسك بقشور الظواهر والتفسيرات، مثل الطائفة والدين والعلم، إلخ، (وهي كلها بالنسبة لبعض أساتذتنا مجرد نتائج)، وكان ماركس هو "العالِم" الذي يغوص في أعماق الظواهر وتاريخها. كان فيبر بالنسبة لنا، هو النموذج المباشر على الفهوم البسيطة للعالم، وكان ماركس هو صاحب الفهم المركب (وسنفهم لاحقاً أن العكس أقرب إلى الصحة).
في السنة الأخيرة من البكلوريوس، قرأت واحداً من كتب عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، وكان يستعير فيه تعريف فيبر الشهير للدولة، باعتبارها احتكاراً للعنف. أعجبني التعريف وقتها، وشعرت أن الرجل، على بساطته كما يصورونه لنا، يمكن أن يفيدني.
أستطيع أن أقول، وأظنني لا أبالغ، أن طريقتي في فهم الحياة، بعد أن قرأت ماكس فيبر، صارت مختلفة اختلافاً غير قليل، عن الفترة التي قضيتها قبل قراءته. فهمت بعد فيبر، أن علم الاجتماع يتحمل قراءات أكثر تركيباً، وكنت قبله أفكر باتجاه وبعد واحد، وأبحث عن سبب واحد وأخير وراء أي ظاهرة.
لست فيبرياً، ولا أتبنى كثيراً من مواقفه ونماذجه، لكنني فهمت علم الاجتماع من خلاله. من خلال فيبر، أعدنا الاعتبار إلى الثقافة، وفهمنا أنها أكثر تعقيداً من أن تكون "نتيجة" فقط. من خلاله، أعدنا الاعتبار إلى الناس، لم يعودوا مجرد أحجار شطرنج في ميادين الأسباب الكبرى.
لاحقاً، عندما صار النقد حجة الكسالى، وعندما استخدموا نقد العلم من أجل أن يبتعدوا عنه، واستخدموا حيلة أن كل شيء ذاتي، وأن الموضوعية لا يمكن أن تتحقق، من أجل أن يشطحوا على مزاجاتهم بدون أي ضابط. كنت بحاجة إلى فيبر، لأعرف أن الموضوعية ليست موجودة، لكننا كباحثين في العلوم الاجتماعية، وإن أقررنا بذلك، مضطرون أن نبحث عنها.
في البدء، كانت العودة إلى فيبر مناكفة للماركسيين الذين ظلموه كثيراً، وهي اليوم قبل كل ذلك، وفاء للمعلمين الأوائل.