ذهب هشام رامز، محافظ البنك المركزي المصري، ومن بعده ذهب هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، والبقية تأتي، لا أحد كبير على العزل والإقالة من منصبه، وبإخراج مذل، طالما تجاوز النص وتخطى الحدود المرسومة له.
أُرغم رامز على الاستقالة رغم أن الرجل لم يكن قد تبقى على انتهاء فترته القانونية إلا شهر واحد فقط، لكن إمعانا في إذلاله والتنكيل به لم ينتظروا عليه هذا الشهر وأرغموه على الاستقالة، والسبب أن الرجل اقترب من "قدس الأقداس".. مشروع قناة السويس، حينما قال إن التفريعة الجديدة للقناة كانت أحد أسباب أزمة الدولار الرئيسية، لأنه تم تنفيذها في وقت قياسي وخلال عام واحد بدلا من ثلاث سنوات، وهو ما أدى إلى زيادة الضغط على سوق الصرف وسحب سيولة دولارية منه لسداد مستحقات شركات الحفر والتكريك التي جاؤوا بها على عجل لتنفيذ المشروع العملاق في الموعد المحدد.
كان من الممكن أن يجدد لهشام رامز في موقعه، فترة ثانية وثالثة ورابعة، مدة كل واحدة منها 4 سنوات، وذلك كما حدث لمعظم من سبقوه في هذا المنصب الحساس، وكان من الممكن أن يظل الرجل أحد أهم رموز النظام الحاكم، بل وأبرز رمز اقتصادي في البلاد، وأن يتم التغاضي عن معاملاته "الناشفة" والحادة مع كل من رئيس الوزراء، "وشخطه" في وزراء المجموعة الاقتصادية، خاصة وزير الاستثمار، وألا يسأل عن حقيقة خلافاته المستمرة مع رجال ومنظمات الأعمال، أو عن سبب الانخفاض المتواصل في قيمة الجنيه أمام الدولار، أو عن حقيقة زيادة التعثر في القطاع المصرفي بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية، أو عن تهاوي الاحتياطي الأجنبي.
كل ذلك لا يهم، فهي قضايا هامشية، المهم هو الالتزام بالنص، ولذا عندما تجاوز الرجل الخطوط الحمراء المرسومة لأي مسؤول في البلاد تم إطلاق رصاصة الرحمة والإعلام ورجال الأعمال عليه، وتحميله أزمة الدولار كاملة رغم الحرفية التي تعامل بها الرجل مع هذا الملف الخطير في ظل محدودية الموارد الدولارية والعبث الذي يمر به المشهد الاقتصادي.
في تقديري أن هشام جنينة كرّر خطأ رامز حينما تحدث عن حالات فساد بقيمة 600 مليار جنيه. النظام اعتبره شخصا مجنوناً يتحدث عن وجود فساد في مدينة فاضلة ونظيفة من الجرائم المالية، مدينة تعلن مكافحة الفساد علناً وليل نهار، لكن في الخفاء يترعرع فيها الفساد ليزكم الأنوف ويدهس الصغار قبل الأثرياء.
الرقم الأول جاء على لسان عضو البرلمان ورئيس مصلحة الضرائب الأسبق أشرف العربي، حينما قدّر حجم التهرّب الضريبي في مصر بنحو 250 مليار جنيه سنوياً، وقال إن الخزانة العامة المصرية تفقد هذا الرقم الذي لا يدخل ضمن الإيرادات العامة بسبب عمليات التهرب.
أما الرقم الثاني، فوفق ما أوردته جريدة "الوطن" القريبة من النظام، فقد تسلّمت رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء تقريراً من هيئة الرقابة الإدارية والجهاز المركزي للمحاسبات، الثلاثاء الماضي، تضمّن حصراً للتعديات على أراضٍ ملك الدولة، ومخالفات تخصيص الأراضي، في كل المحافظات، بينها مخالفات طرق "القاهرة الإسكندرية"، و"القاهرة الإسماعيلية"، و"القاهرة السويس"، والواحات، إضافة إلى أراضي الحزام الأخضر في مدينة 6 أكتوبر، وأن القيمة الإجمالية للمخالفات والتعديات المحصورة بلغت 440 مليار جنيه.
ورصد التقرير الأراضي التي تحوّلت إلى قصور وفيلات بعدما كانت مخصصة للمزارعين وشباب الخريجين، إضافة إلى أراضي طرح النهر.
والغريب أيضا أن التقرير المشترك لهيئة الرقابة الإدارية والجهاز المركزي للمحاسبات قدّر حجم الفساد في قطاع الأراضي على الطرق الصحراوية فقط وحده بـ440 مليار جنيه، مع الإشارة هنا إلى أن التقرير جرى إعداده بناءً على طلب الرئاسة.
لن أناقش هنا تأثيرات الإطاحة بالرجلين (رامز وجنينة) على الوضع الاقتصادي والمالي للبلاد، ولن أناقش مخالفة ذلك للدستور والقوانين التي تنظم عمل البنك المركزي المصري والجهاز المركزي للمحاسبات والتي تحظر عزل رؤساء الأجهزة الرقابية من منصبيهما، فهذا معلوم للكافة، ولكن أسأل فقط: ماذا يكون قرار المستثمر الأجنبي عندما يعلم خبر الإطاحة برئيسي أكبر جهازين رقابيين في البلاد، الأول هو الجهة المسؤولة عن حماية أموال المودعين، والرقابة على القطاع المصرفي، وإدارة الاحتياطي وسوق الصرف، والثاني هو الجهاز المنوط به مكافحة الفساد وحماية المال العام.