29 سبتمبر 2024
"النهضة".. أوجاع الخلاص من المرجعية الإسلامية
لا أحد من تنظيمات الطبقة السياسية التونسية وأحزابها يمكنه التغافل عن حجم حركة النهضة "الإسلامية" اللافت، وما تمتلكه من قدراتٍ تعبوية وإمكانيات تنظيمية، أو يُنكر عليها نشوة الاحتفال بمؤتمرها العاشر الذي انطلق حسب ما خُطط له، أمس الجمعة، في حركة استعراضية، تنمّ عن الشعور بالفحولة السياسية والتفوق عن بقية مكونات الخارطة الحزبية التونسية المتشظّية في غالبها، إلا أن هذا المؤتمر لا يشبه ما سلف من مؤتمرات "الحركة الإسلامية" الأكبر في تونس، منذ ولادتها، جماعة إسلامية سنة 1972، مروراً بتأسيسها اتجاهاً إسلامياً سنة 1981، وصولاً إلى لحظة تجلّيها حزباً يحمل اسم حركة النهضة سنة 1988، استجابة لشرط قانون الأحزاب لسنة 1988 الذي يحجّر اعتماد الانتماء الديني الإسلامي، أو اللغوي العربي، صفة ومرجعاً للأحزاب السياسية. ومع ذلك، لم تتحول "الحركة الإسلامية" إلى حزب قانوني إلا سنة 2011، منّةً عليها من الثورة التونسية، بعد هروب بن علي، وأفول نجم نظامه، وتفكّك آلته التسلطية الجهنمية.
وبمرور أربعين عاماً على نشأتها الأولى، أي وهي في سنّ الوحي، تجد "النهضة" نفسها اليوم، تعيش عسراً ووجعاً، لم تعشهما حتى في سنوات جمرها، أيام صراعها الدامي مع كل من بورقيبة وبن علي ونظاميهما الطاغوتيين، كما كانت تصفهما في مراجعها العقائدية وأدبياتها الفكرية، فهي مطالبةٌ بأن تنزع عنها ثوبها العقائدي، وتتخلّص من مرجعيتها الإسلامية التي أنشأت عليها منخرطيها وأنصارها قبل قياداتها وزعاماتها، وتغيّره بثوب فاقع لونه، يسرّ الناظرين الليبراليين والغربيين، والعلمانيين كافة، كي تنال رضاهم أجمعين.
كتب راشد الغنوشي مقالاً في خمس صفحات، وعلى قصره، نُشر في مجلّة المستقبل العربي سنة 2009 عنوانه "الإسلام والعلمانية"، حاول فيه أن يُصالح فيه فكره الديني مع المفاهيم العلمانية، ضمن ما تسمى العلمانية المؤمنة التي نظّر لها يوماً عبد الوهاب المسيري، ووجدت لها سبيلاً في التجربة العثمانية الجديدة في تركيا. لكن الغنوشي لم يكن متيقّظاً ومستشرفاً، عندما وصف العلمانية الشاملة بمفهومها الغربي، وهي موضع إدانة لديه، بأنها "تتجه قدماً إلى نزع القداسة عن كلّ شيء، وطرد المقدّس من العالم، ومن كلّ نشاط اجتماعي أو خلقي وتحويل كلّ هذا العالم إلى مجرّد أدوات استعمالية". إنه سيجد نفسه أسيراً لهذا المفهوم وإكراهاته الاجتماعية والقيمية، في أصوليته الغربية، وليس في إخراجه الإسلامي، مثلما كان يتمنّاه ويروق له. وإلا ما الذي يعنيه فصل الدعوي عن السياسي الذي يُبَشّر به النهضاويون التونسيين كافة وجمهور المراقبين الدوليين بأنه خير عظيم، سيسوّق باسم المؤتمرين الإسلاميين؟
فالمعنى الحقيقي لهذا الفصل هو عدم التزام الإسلام قرآناً وسنةً نبوية شريفة، وإرثاً فقهياً، مرجعية عقدية وأيدولوجية لحركة النهضة، في فهمها ونشاطها السياسيين. يتجلّى ذلك الاتجاه من خلال القطع الكلي المنتظر مع الوثيقة التاريخية المعروفة بالرؤية الفكرية والمنهج الأصولي التي تعود إلى سنة 1986، وتقدّم مفهوماً للسلطة ضمن "وظيفة الخلافة التي تقتضي القيام على شريعة الله في الأرض"، المحدّدة لمفهوم "الصلاح والفساد"، وفق "منهج التعامل مع الوحي نصاً وتطبيقاً". وستلتزم "النهضة" بدلاً عن ذلك بدستور 2014 مرجعية وحيدة للتشريع وسن القوانين، بما فيه فصل حرية الضمير الذي مازال يُحدِث جدلاً لا متناهياً في الأوساط الدينية التونسية، بسبب اعتداء بعضهم على المقدسات وتدثرهم بهذا الفصل الدستوري والاحتماء به.
لا نريد أن نفتّش في سجل التنازلات التي كثيراً ما تمّ ترويجها تحت يافطة التكتيكات التي
تنسجم مع العلمانية الغربية، أكثر منها مع "العلمانية الإسلامية"، لكن المواقف السياسية لحركة النهضة التي تتماهى وتنصهر في المقاربة العلمانية بلغت مداها، وأفقدت الحركة لونها وهويتها الإسلامية، خصوصاً بعد تجربتها في الحكم بين 2012 ومطلع 2014. فقد تنكّرت الحركة لفكرة الخلافة السادسة التي أطلقها أمينها العام حمادي الجبالي، في نهاية سنة 2011، وهو يعيش على وقع الانتصار الكاسح لحركته في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي. وقد يكون ذلك مبرّراً، على الرغم من تأخر وعي الإسلاميين به، نتيجة الأخذ بالظواهر من دون النظر إلى البواطن، حتى من داخل الحقل المعرفي والتاريخي العربي الإسلامي، لأن الدولة المدنية الأولى التي أسّسها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة كانت متعدّدة الانتماءات الإثنية والقبلية والطائفية والدينية، وحُكمت بدستور الصحيفة، ولم تُحكم بالقرآن الكريم الذي هو وثيقة متعالية، مطلقة في الزمان والمكان، ناهيك عن أن الخلافة منذ الأمويين كانت ملكاً وسلالةً، ولم تكن مؤسسة شورية، كما هو حال الخلافة الراشدة.
لكن التجسيد الأكبر لمبدأ العلمانية الغربية، في جانبها القيمي، برز من خلال الموقف من المثلية الجنسية التي اعتبرها الشيخ راشد الغنوشي، في كتابه "حول موضوع الإسلام" (حوار مطول أجراه معه الصحافي الفرنسي أوليفي رافنيلو، وصدر سنة 2015 )، شأناً خاصاً إذا مورس في البيوت، رافضاً تجريمه بهذا المعنى، ورافضاً التجسّس على ممارسيه من أيٍّ كان. ولا يغازل الغنوشي بهذا الموقف فقط الغرب في موقفه من المثلية الجنسية والزواج المثلي، ويستجيب لشروطه في ضرورة علمنة المجتمعات العربية والإسلامية، وخصوصاً في المستوى القيمي، وإنما يناقض، في مجاهرته بهذا الموقف، آية قرآنية صريحة مستبطنة في الشخصية العربية – الإسلامية، مفادها الدعوة إلى الخير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولم يقتصر سجل التنازلات على بعض المواقف الفكرية والنخبوية، وإنما شمل قضايا سياسية ذات طبيعة حيوية للمجتمع والدولة في تونس، ويتعلق الأمر، هنا، بالفساد بمضامينه الاقتصادية والمالية والسياسية ومصالحة قوى النظام القديم الذي أسقطه التونسيون في 14 يناير/ كانون الثاني 2011. فالمتداول هو رفض "النهضة" قانون العزل السياسي، وبالتالي، تمكين من عاث فساداً في الحياة السياسية التونسية، وتزوير الانتخابات من فرصة العودة إلى مراكز القرار السياسي بكل يسر، كما أن مبادرتها للمصالحة الاقتصادية تندرج ضمن التوجه نفسه، بتمكين من استولى على أموال التونسيين وثرواتهم ونهبها لصالحه من العودة إلى الحياة العامة، والاستثمار الاقتصادي بدون قيود تُذكر، مع تبرير ذلك بالوضعية الاقتصادية الحرجة. ويناقض هذا الموقف بدوره مفهوم الصلاح والإصلاح الذي شجّع عليه القرآن الكريم، قبل أن يظهر في مقاربات الشفافية والحوكمة التي باتت ركناً في العمل السياسي وأداء الدول وحكوماتها اليوم.
وإن التنازلات التي تقدّمها "النهضة" باسم المراجعات وتونسة الحركة، كما تضمنتها لوائحها التي ستناقش في المؤتمر العاشر، هي نتاج أخطاء تاريخية في فهم المسألة الدينية وتأويل نصوصها. وتنسف هذه الأخطاء نضالاً تاريخياً لقوى الهوية، انطلق منذ الاحتلال الفرنسي، ولا يزال مستمرّاً مخترقاً عشرات السنين، غايته تثبيت الهوية العربية الإسلامية لتونس، واعتماد مرجعياتها قاعدة في الفكر والسياسة لدى الأحزاب الوطنية.
وإذا كان الأمر يتعلّق بالأصوليات الأيديولوجية ككل في المقاربات السياسية، فإن جل الأحزاب لم تراجع صنمياتها العقدية والأيديولوجية، بطريقة عمل "النهضة" على الخلاص من "وحل" مرجعيتها الإسلامية. أما إذا كان هذا التمشي غايته التموقع السياسي، وأخذ موقع دائم ومريح في الدولة، وليس الاحتجاج عليها، بأي ثمن كان، فلا بد من الإقرار بأن الحركة الإسلامية التونسية أضاعت أربعين سنة من تاريخها، لكي تتحول إلى حزبٍ بدون لون ولا مرجعية، أو لنقل إنصافاً، بمرجعية ليبرالية.
وبمرور أربعين عاماً على نشأتها الأولى، أي وهي في سنّ الوحي، تجد "النهضة" نفسها اليوم، تعيش عسراً ووجعاً، لم تعشهما حتى في سنوات جمرها، أيام صراعها الدامي مع كل من بورقيبة وبن علي ونظاميهما الطاغوتيين، كما كانت تصفهما في مراجعها العقائدية وأدبياتها الفكرية، فهي مطالبةٌ بأن تنزع عنها ثوبها العقائدي، وتتخلّص من مرجعيتها الإسلامية التي أنشأت عليها منخرطيها وأنصارها قبل قياداتها وزعاماتها، وتغيّره بثوب فاقع لونه، يسرّ الناظرين الليبراليين والغربيين، والعلمانيين كافة، كي تنال رضاهم أجمعين.
كتب راشد الغنوشي مقالاً في خمس صفحات، وعلى قصره، نُشر في مجلّة المستقبل العربي سنة 2009 عنوانه "الإسلام والعلمانية"، حاول فيه أن يُصالح فيه فكره الديني مع المفاهيم العلمانية، ضمن ما تسمى العلمانية المؤمنة التي نظّر لها يوماً عبد الوهاب المسيري، ووجدت لها سبيلاً في التجربة العثمانية الجديدة في تركيا. لكن الغنوشي لم يكن متيقّظاً ومستشرفاً، عندما وصف العلمانية الشاملة بمفهومها الغربي، وهي موضع إدانة لديه، بأنها "تتجه قدماً إلى نزع القداسة عن كلّ شيء، وطرد المقدّس من العالم، ومن كلّ نشاط اجتماعي أو خلقي وتحويل كلّ هذا العالم إلى مجرّد أدوات استعمالية". إنه سيجد نفسه أسيراً لهذا المفهوم وإكراهاته الاجتماعية والقيمية، في أصوليته الغربية، وليس في إخراجه الإسلامي، مثلما كان يتمنّاه ويروق له. وإلا ما الذي يعنيه فصل الدعوي عن السياسي الذي يُبَشّر به النهضاويون التونسيين كافة وجمهور المراقبين الدوليين بأنه خير عظيم، سيسوّق باسم المؤتمرين الإسلاميين؟
فالمعنى الحقيقي لهذا الفصل هو عدم التزام الإسلام قرآناً وسنةً نبوية شريفة، وإرثاً فقهياً، مرجعية عقدية وأيدولوجية لحركة النهضة، في فهمها ونشاطها السياسيين. يتجلّى ذلك الاتجاه من خلال القطع الكلي المنتظر مع الوثيقة التاريخية المعروفة بالرؤية الفكرية والمنهج الأصولي التي تعود إلى سنة 1986، وتقدّم مفهوماً للسلطة ضمن "وظيفة الخلافة التي تقتضي القيام على شريعة الله في الأرض"، المحدّدة لمفهوم "الصلاح والفساد"، وفق "منهج التعامل مع الوحي نصاً وتطبيقاً". وستلتزم "النهضة" بدلاً عن ذلك بدستور 2014 مرجعية وحيدة للتشريع وسن القوانين، بما فيه فصل حرية الضمير الذي مازال يُحدِث جدلاً لا متناهياً في الأوساط الدينية التونسية، بسبب اعتداء بعضهم على المقدسات وتدثرهم بهذا الفصل الدستوري والاحتماء به.
لا نريد أن نفتّش في سجل التنازلات التي كثيراً ما تمّ ترويجها تحت يافطة التكتيكات التي
لكن التجسيد الأكبر لمبدأ العلمانية الغربية، في جانبها القيمي، برز من خلال الموقف من المثلية الجنسية التي اعتبرها الشيخ راشد الغنوشي، في كتابه "حول موضوع الإسلام" (حوار مطول أجراه معه الصحافي الفرنسي أوليفي رافنيلو، وصدر سنة 2015 )، شأناً خاصاً إذا مورس في البيوت، رافضاً تجريمه بهذا المعنى، ورافضاً التجسّس على ممارسيه من أيٍّ كان. ولا يغازل الغنوشي بهذا الموقف فقط الغرب في موقفه من المثلية الجنسية والزواج المثلي، ويستجيب لشروطه في ضرورة علمنة المجتمعات العربية والإسلامية، وخصوصاً في المستوى القيمي، وإنما يناقض، في مجاهرته بهذا الموقف، آية قرآنية صريحة مستبطنة في الشخصية العربية – الإسلامية، مفادها الدعوة إلى الخير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولم يقتصر سجل التنازلات على بعض المواقف الفكرية والنخبوية، وإنما شمل قضايا سياسية ذات طبيعة حيوية للمجتمع والدولة في تونس، ويتعلق الأمر، هنا، بالفساد بمضامينه الاقتصادية والمالية والسياسية ومصالحة قوى النظام القديم الذي أسقطه التونسيون في 14 يناير/ كانون الثاني 2011. فالمتداول هو رفض "النهضة" قانون العزل السياسي، وبالتالي، تمكين من عاث فساداً في الحياة السياسية التونسية، وتزوير الانتخابات من فرصة العودة إلى مراكز القرار السياسي بكل يسر، كما أن مبادرتها للمصالحة الاقتصادية تندرج ضمن التوجه نفسه، بتمكين من استولى على أموال التونسيين وثرواتهم ونهبها لصالحه من العودة إلى الحياة العامة، والاستثمار الاقتصادي بدون قيود تُذكر، مع تبرير ذلك بالوضعية الاقتصادية الحرجة. ويناقض هذا الموقف بدوره مفهوم الصلاح والإصلاح الذي شجّع عليه القرآن الكريم، قبل أن يظهر في مقاربات الشفافية والحوكمة التي باتت ركناً في العمل السياسي وأداء الدول وحكوماتها اليوم.
وإن التنازلات التي تقدّمها "النهضة" باسم المراجعات وتونسة الحركة، كما تضمنتها لوائحها التي ستناقش في المؤتمر العاشر، هي نتاج أخطاء تاريخية في فهم المسألة الدينية وتأويل نصوصها. وتنسف هذه الأخطاء نضالاً تاريخياً لقوى الهوية، انطلق منذ الاحتلال الفرنسي، ولا يزال مستمرّاً مخترقاً عشرات السنين، غايته تثبيت الهوية العربية الإسلامية لتونس، واعتماد مرجعياتها قاعدة في الفكر والسياسة لدى الأحزاب الوطنية.
وإذا كان الأمر يتعلّق بالأصوليات الأيديولوجية ككل في المقاربات السياسية، فإن جل الأحزاب لم تراجع صنمياتها العقدية والأيديولوجية، بطريقة عمل "النهضة" على الخلاص من "وحل" مرجعيتها الإسلامية. أما إذا كان هذا التمشي غايته التموقع السياسي، وأخذ موقع دائم ومريح في الدولة، وليس الاحتجاج عليها، بأي ثمن كان، فلا بد من الإقرار بأن الحركة الإسلامية التونسية أضاعت أربعين سنة من تاريخها، لكي تتحول إلى حزبٍ بدون لون ولا مرجعية، أو لنقل إنصافاً، بمرجعية ليبرالية.