وكشفت مصادر دبلوماسية مصرية، لـ"العربي الجديد"، أن وزارة الخارجية الإثيوبية أرسلت، أول من أمس، خطاباً، يبدو روتينياً، اعتاد كل طرف إرساله لباقي الأطراف المعنية منذ انطلاق المفاوضات، لمراجعة نقاط الاتفاق والاختلاف، وأهم مخرجات الاجتماع الذي عقد على مدار 4 أيام في واشنطن الأسبوع الماضي. لكن البيان، وفقاً للمصادر نفسها، ضمنته أديس أبابا عبارة غامضة تقول فيها إن "المفاوضات المقبلة ستكون مخصصة فقط لمناقشة ملء وتشغيل السد، لوضع قواعد استرشادية". وجاء هذا التطور بعد ساعات من زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد لمشروع السد يوم السبت الماضي، في خطوة اعتبرت رسالة سياسية لا ينقصها الوضوح رداً على الضغوط الأميركية للتوصل لحل يكفل الحد الأدنى للمصالح المصرية.
وبحسب المصادر، فإنه في حال كانت إثيوبيا تعني بالفعل ما يُفهم من عبارة "القواعد الاسترشادية"، فإن ذلك يشكل نسفاً للمسار التفاوضي بالكامل، وانقلاباً على جميع التفاهمات السابقة.
وتضمنت التفاهمات، بحسب البيان الأميركي، الذي أقرّه وزراء الخارجية والري بالدول الثلاث، الاتفاق على ثلاثة أمور رئيسية بشكل مبدئي، هي جدول يتضمن خطة ملء سد النهضة على مراحل، والآلية التي تتضمن الإجراءات ذات الصلة بالتعامل مع حالات الجفاف والجفاف الممتد والسنوات الشحيحة أثناء الملء، والآلية التي تتضمن الإجراءات الخاصة بالتعامل مع حالات الجفاف والجفاف الممتد والسنوات الشحيحة أثناء التشغيل، مع التأكيد على أن هذا الاتفاق لا يزال رهن التوقيع النهائي على الاتفاق الشامل، والمقرر نهاية فبراير.
وأوضحت المصادر أن وصف إثيوبيا لما سيتم الاتفاق عليه بأنه "قواعد استرشادية" بمثابة اتجاه يتماشى مع بعض أطروحاتها في واشنطن والخرطوم أخيراً، لدى مناقشة وضع آلية التنسيق وأخرى لفض التنازع. فأديس أبابا ترى أن سلطتها على السد سيادية ومطلقة، وأن الاتفاقات يجب أن تظل فنية بحتة ونتائج الوساطة "استرشادية وليست حاسمة أو ملزمة" مع إبعاد وزراء الخارجية عن النقاشات الفنية. وذكرت أنه تحسباً لانقلابات إثيوبية جديدة على نتائج المفاوضات، بما في ذلك الاتفاق على العودة إلى إجراء دراسات فنية واجتماعية عن الآثار السلبية للسد، فقد طلبت مصر من أحد المكاتب الفنية، التي عملت من قبل على الملف، إجراء تحديث على التقرير الخاص بالآثار السلبية التي ستعاني منها على ضوء المطالبات الإثيوبية بإتمام عملية الملء الأول للسد من 4 إلى 7 سنوات، مع الحفاظ فيما بعد على منسوب المياه في بحيرة سد النهضة أعلى من 595 متراً فوق سطح البحر، لتستمر قدرته على إنتاج الكهرباء. يشار إلى أن إثيوبيا كانت رفضت التعاطي مع الاتفاق، بعدما أثبتت التقارير الفنية الأوروبية المختلفة جسامة الأضرار التي ستتكبدها مصر، وأقلها خروج ملايين الأفدنة من خطة الزراعة السنوية إذا لم يتم توفير مصدر مستدام للمياه الصالحة للري.
وترفض مصر المقترح الإثيوبي باعتباره غير عادل، ويسبب انخفاض مقياس المياه في بحيرة ناصر عن 165 أو 170 متراً، وهو الأمر الذي حاولت المناقشات الفنية السابقة في الخرطوم التوصل لحل بشأنه، لتطبيق البند الرابع من الاتفاق التمهيدي، الذي أعلن في واشنطن الشهر الماضي. وينص هذا البند على ملء البحيرة بعد إتمام الملء الأول والوصول للمنسوب المطلوب على مراحل، تبعاً لظروف هيدرولوجيا النيل الأزرق ومستوى بحيرة السد، وذلك للحفاظ على وتيرة وصول المياه للسودان ومصر، بدون تحديد المنسوب المقبول في البحيرة مستقبلاً، أو حتى المنسوب الذي يجب الحفاظ عليه في الخزانات الأخرى. ويستمر حتى الآن الخلاف بين البلدين حول تحديد الرقم الذي إذا انخفضت عنه كمية المياه المتدفقة من السد، ينبغي إعلان حالة الجفاف واتخاذ التدابير الاستثنائية. وتطالب مصر بتمرير 40 مليار متر مكعب أثناء فترات الجفاف، وبالتالي اتخاذ التدابير الاستثنائية بوقف الملء إذا انخفض المنسوب عن هذا الحد، في حين تعرض إثيوبيا اتخاذ التدابير عند حد 35 مليار متر مكعب وتمرير هذه الكمية في فترات الجفاف.
وكشفت المفاوضات الأخيرة في واشنطن، وقبلها جولة التفاوض الفنية في الخرطوم تقارباً مطرداً بين إثيوبيا والسودان، حيث تخلّف الطرفان عن التوقيع على الاتفاق المبدئي بشأن القضايا الفنية الثلاث المهمة السابق ذكرها في البيان الموحد، بينما وقعت مصر من طرف واحد لإثبات حسن النوايا. كما ظهر عدم اكتراث الجانب السوداني لبعض المخاوف الحساسة والحيوية للمصريين، خصوصاً في ظل اتفاق التعاون الكهربائي بين سد النهضة وشبكة الكهرباء السودانية، ما يعني استفادة الخرطوم من الاتفاق الذي أُبرم بضرورة سرعة الملء الأول للخزان الرئيسي ابتداء من يوليو/تموز المقبل، بغية البدء في توليد الكهرباء تجريبياً في ربيع العام المقبل، وفعلياً في صيف ذلك العام، وهو ما سبق وحذرت منه مصادر بوزارة الري المصرية عبر "العربي الجديد" الشهر الماضي.
وسبق أن قدم السودان مقترحاً بشأن المعيار الرقمي لحالة الجفاف، برقم وسط بين المقترحين المصري والإثيوبي، على أن يتم قياسه على أساس حصيلة المياه المتدفقة خلال الشهور التالية للفيضان مباشرة، ولا يرضي هذا التصور الجانب المصري، الذي يرغب في تحديد مؤشرات الجفاف بصورة مستديمة طوال شهور الشتاء والربيع. لكن أديس أبابا والخرطوم تعتبران أن المقترح المصري ليس عملياً، ويفترض وجود لجنة دائمة للقياس، وهو أمر تريان أنه يخرج عن نطاق الاتفاق على الإدارة الإثيوبية الخالصة للسد.
وكانت أزمة قد اندلعت بعد جولة التفاوض الفنية الرابعة في أديس أبابا، الشهر الماضي، عندما رفضت إثيوبيا المقترح المصري الذي يتمسك بتدفق 40 مليار متر مكعب من مياه النيل الأزرق سنوياً، وهو متوسط إيراد النهر في أثناء فترات الجفاف والجفاف الممتد، استدلالاً بما حدث في الفترة بين عامي 1979 و1987. وقالت إثيوبيا إن المقترح المصري يتطلب ملء سد النهضة في فترة بين 12 و21 عاماً. وكانت قبلها تقول إنها تتوقع التوصل إلى اتفاق بالنظر لحالة فيضان النيل في السنوات الحالية، مع تأكيدها على تمسكها بأن الحفاظ على منسوب المياه في بحيرة ناصر عند 165 أو 170 متراً قد يؤدي إلى حرمانها من إمكانية الملء لشهور عديدة متتابعة، نظراً لتدني مستوى الفيضان في بعض الأحيان إلى أقل من 30 مليار متر مكعب، وبالتالي ترى أن المحددات لا يمكن أن تقاس بأي مؤشر في دولة المصب.
وردت مصر بالمطالبة بالرجوع للأطر السياسية والدولية الحاكمة للقضية، قبل اتفاق المبادئ، الموقع بين الدول الثلاث في العام 2015، وعلى رأسها اتفاقية أديس أبابا في العام 1902 والتي تمنع الإثيوبيين من بناء أي أعمال إنشائية أو سدود على النيل الأزرق وغيره من روافد النيل إلا بإذن من الحكومة السودانية والحكومة البريطانية إبان احتلالها لمصر. كما لوح الجانب المصري بالمطالبة باللجوء إلى مجلس الأمن واتباع إجراءات قانونية ذات طبيعة دولية لوقف أعمال السد التي تجري دون إذن المصريين والسودانيين.