"القضية المركزية" في ذكرى النكبة
لم يُنجز هدف تحرير فلسطين، لكن ذلك لم يمنع تغيّر أولويات بعضٍ من العرب، مع التغيّرات الكبرى التي عرفها العالم، بعد نهاية الحرب الباردة. وشهد عقدا ما بعد الحرب الباردة، وصولاً إلى اندلاع "الربيع العربي"، من يرفضون استمرار اعتبار القضية الفلسطينية بمثابة "القضية المركزية" للعرب، مطالبين باتخاذ "الديمقراطية"، مثلاً، هدفاً مركزياً بديلاً، لتكون مفتاحاً لحل كل القضايا، بما في ذلك تحرير فلسطين.
لقيت مثل تلك الأصوات وقتها انتقادات كثيرة، خصوصاً لأنها تزامنت واتساع نطاق "عملية السلام" بين العرب وإسرائيل، وبالذات فيما يتعلق باتفاق أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية، إذ اتُهمت بأنها تسعى إلى خدمة ذلك "السلام" المفترض، أو تسعى إلى التطبيع مع "إسرائيل". ونادراً ما أمكن قراءة مطلب تغيير "القضية المركزية"، من زاوية تاريخية، وتفهّمه، باعتباره يتعامل بموضوعية مع الأزمة الحضارية العربية، وليس، بالضرورة، أنه يمثل تخليّاً عن فلسطين.
لكن انطلاق ثورات "الربيع العربي" ونجاح أولاها في تونس، مطلع عام 2011، أثّر موضوعياً على مقدار اهتمام العرب بالقضية الفلسطينية، باعتبارها قضية مركزية، إذ باتت قضية العرب الرئيسية، في أول الأمر، الثورة على الاستبداد، والسعي إلى الديمقراطية، ثم نتيجة التداعيات التالية، بدت الحرب على الإرهاب ومقاومة الحركات المتطرفة، قضية العرب الأساسية وشغلهم الشاغل. وفي كل الأحوال، عكس ذلك كله تبدّلاً في الأولويات المعلنة لدى الشعوب والحكومات على حد سواء.
على أن الانتقال بقضية العرب المركزية المعلنة (لا الحقيقية بالضرورة)، من تحرير فلسطين إلى الانعتاق من الاستبداد، ليس، على الأغلب، أمراً مُضراً بقضية فلسطين؛ فقد خرج التونسيون بعد انهيار نظام بن علي، يهتفون: "الشعب يريد تحرير فلسطين"، في إدراك واضح أن الاستبداد والاحتلال يكمّلان بعضهما، ويؤدي أحدهما إلى الآخر، ويمثلان وجهين لعملة واحدة.
ربما أدركت شعوب "الربيع العربي" أن استمرار احتلال فلسطين هو نتيجة لحالة التخلف الحضاري التي ظل يرعاها الاستبداد، وليس قضية مركزية قائمة بذاتها. الاستبداد لم يكن معنياً بالتقدم الحضاري، لأنه هو نفسه يمثل ضداً لتقدم الحضارة الإنسانية. ثم إنه لم يكن معنياً بقضية فلسطين سوى من زاوية استعمالها شعاراً لتبرير ممارساته الاستبدادية، وفي حالات كثيرة، غطاءً لانقلابات عسكرية أقامت أنظمة شمولية. وهكذا، غض العرب الطرف عن تحديث الدولة والمجتمع، بحجة أولوية القضية الفلسطينية، وكأنهم صدّقوا أنه يمكنهم تحرير فلسطين، من دون أن يكونوا هم أنفسهم أحراراً.
لعلنا ننسى في ذكرى "النكبة" التي تحل في منتصف مايو/أيار، أن قيام "إسرائيل" في عام 1948، مثّل صفعة قوية لمشروع التحديث العربي، الذي انطلق مع أفكار النهضة الأولى في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ذلك أنه أربك أولويات المفكرين والسياسيين على السواء، فتنازل أكثرهم عن قضية التحديث، أولوية، لصالح الفكرة التي تختصرها العبارة الشهيرة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". وهذا يعني أن مشروع التحديث لم يُنجز، لكي يكون ممكناً الانتقال إلى مشروع آخر، والنجاح فيه. ومن الطبيعي أن نفشل في تحرير فلسطين، على الرغم من كل "الاحتياطات" التي اتُخذت لذلك، بما في ذلك منع الأصوات المضادة لصوت المعركة، ذلك أننا لم ندخل المعركة بأمة محدّثة، وخصوصاً في ثقافتها التي تحرك سلوكها. وعلى أي حال، إن فقدان التحديث هو نفسه الذي تسبب بضياع فلسطين أصلاً!
بهذا، يمكن تفهّم كيفية التفكير بـ"القضية المركزية" في سياق الربيع العربي، باعتبارها استعادة للمشروع العربي الأصلي، الذي تركناه في أربعينيات القرن العشرين، من دون أن ننجزه. صحيح أن ما جرى في تاريخنا الحديث والمعاصر أعقد من بساطة "تبديل الأولويات"، إلا أن هذا التبديل كان جوهر ما حدث، ويمكن اعتباره الاتجاه العام للتاريخ العربي المعاصر. وهذا يعني أن ثمة تفكيراً جماعياً غير معلن بضرورة استعادة المشروع العربي الأصلي: التحديث، واستكماله، فهو الضمانة للخروج من الأزمة الحضارية العميقة التي نعيشها، بما في ذلك على صعيد القضية الفلسطينية.