داخل مدينة خان شيخون المنكوبة، شارك وزير الصحة في الحكومة السورية المؤقّتة محمد فراس الجندي، في إسعاف مصابي مجزرة الكيمياوي في مشفى ميداني يقع شمال المدينة، عقب هجوم راح ضحيته 87 من أبناء المدينة الأصليين والنازحين إليها، من بينهم 29 طفلاً و21 امرأة، فيما أصيب 560 آخرون بأعراض تسمّم بالغاز، بحسب ما وثق الطبيب محمد الجندي، والذي تفقد مكان سقوط أحد الصواريخ التي يعتقد أنها كانت محملة بمواد كيمياوية بالقرب من مركز حبوب المدينة، الواقع إلى جوار دوار المشعل.
استقبلت كل المشافي العامة والخاصة وحتى الميدانية ونقاط الإسعاف والمستوصفات في عموم محافظة إدلب، مصابي المجزرة، بحسب الجندي الذي عاين حالات الاختناق المتكدسة في ممرّات المشفى الميداني وفي أرجائه المختلفة، فيما تم نقل الحالات الحرجة إلى تركيا عبر معبر باب الهوى الحدودي.
وتعد محافظة إدلب التي تتبعها مدينة خان شيخون الأكثر استهدافاً بالأسلحة الكيمياوية من قبل النظام بعد قرار مجلس الأمن 2118 وتوقيع النظام السوري على اتفاقية نزع الأسلحة الكيمياوية، بحسب ما يؤكد لـ"العربي الجديد" فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، إذ تعرضت المحافظة إلى 41 هجمة، وتليها محافظة ريف دمشق وشهدت 33 هجمة، ثم محافظة حماة التي تعرضت لـ 27 هجمة، ومحافظة حلب 24 هجمة، وتليها محافظة دمشق 22 هجمة، وكان نصيب محافظتي حمص ودرعا 4 هجمات لكل منهما، و3 هجمات في محافظة دير الزور (شرق)، وفق بيانات موثقة جاءت في 22 تقريراً حقوقياً أصدرتها "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" حول الهجمات الكيمياوية للنظام.
وأحصت الشبكة 200 هجوم بالأسلحة الكيمائية منذ بدء الثورة السورية وحتى صدور أحدث تقاريرها في فبراير/شباط الماضي، تنقسم إلى 191 هجمة حتى نهاية عام 2016 و9 هجمات منذ بداية عام 2017، أدت جميعها إلى مقتل 1405 سوري وسورية وفق ما قالته لـ"العربي الجديد"، براء الآغا مديرة التقارير في الشبكة السورية لحقوق الإنسان، والتي لفتت إلى تداول رقم خاطئ حول عدد تلك الهجمات، إذ قدرتها مصادر صحافية بـ 333 هجمة عبر تكرار احتساب عمليات التوثيق بعد قرارات الأمم المتحدة الثلاثة 2218، 2209، 2235 (المتعلقة باستخدام الأسلحة الكيماوية وتحديد المسؤولين عن ذلك)، وقبل صدورها. بينما أحصت الجمعية الطبية السورية الأميركية استخدام الأسلحة الكيمياوية 161 مرة في سورية خلال السنوات الخمس السابقة، ما تسبب في مقتل أكثر من 1500 شخص وإصابة أكثر من 14 ألفاً، بحسب ما ذكرته في تقرير أصدرته بتاريخ 14 مارس/آذار 2016.
وتعد حادثة استهداف حيي البياضة ودير بعلبة في حمص، أولى وقائع استخدام السلاح الكيمياوي في سورية، والتي أدت إلى مقتل ستة مدنيين وإصابة 60 آخرين، بينما يعد ما جرى في الغوطة شرقي دمشق، في 21 أغسطس/آب 2013، الهجوم الكيمياوي الأضخم لقوات النظام، إذ راح ضحيته 355 قتلوا نتيجة تسمم عصبي من بين نحو 3600 حالة تم نقلها إلى المستشفيات، بحسب ما ذكرت منظمة أطباء بلا حدود في 24 آب/أغسطس، بينما قالت المعارضة إن عدد القتلى ارتفع إلى 1466 فيما ذكر تقرير للمخابرات الأميركية أن 1429 شخصا قد قتلوا، وعلى الرغم من توقيع النظام السوري في 26 تشرين الأول/أكتوبر، على القرار رقم 2118 الخاص بمعاهدة نزع الأسلحة الكيمياوية، إلّا أنه قام بخرقه 167 مرة منذ التوقيع، ومن بين تلك الخروقات 9 هجمات جرت منذ مطلع عام 2017 وحتى مجزرة خان شيخون في 4 أبريل/نيسان 2017.
ويمتلك النظام سبع منشآت وستة مخابر لتصنيع السلاح الكيمياوي، وفق توثيق أجراه مركز توثيق الانتهاكات الكيمياوية في سورية، ووثق المركز 2376 حالة وفاة و12 ألف إصابة جراء الأسلحة الكيميائية التي أقدمت القوات النظامية على استخدامها.
مدينة الأشباح
تقع مدينة خان شيخون في الريف الجنوبي لمحافظة إدلب وعلى الرغم من أنها تتبع إداريا محافظة إدلب إلا أنها أقرب إلى مدينة حماة، إذ تبعد عنها 37 كيلومتراً، منها إلى مدينة إدلب التي تبعد عنها 70 كيلومتراً، وتُعتبر نقطةً استراتيجية، كونها تصل محافظة إدلب بريف حماة الشمالي وتقع على الطريق الدولي "حلب-دمشق"، وعقب يومين من مجزرة الكيمياوي في خان شيخون أضحت شوارع المدينة وبيوتها فارغة من أهلها، إلا قليلا من المارة ممن يركبون دراجات نارية أو سيارات نقل صغيرة وأخرى خاصة، يحملون عليها أغراضهم وأقاربهم الذين نزحوا إلى قرى سراقب ومعرة النعمان ومدينة إدلب وغيرها من قرة ريف إدلب الشمالي، خوفا من إعادة استهداف قوات النظام المدينة بالغازات السامة، وفق ما وثقه معد التحقيق بالفيديو خلال جولة في البلدة المنكوبة.
غادر 80% من أهالي المدينة الأصليين والنازحين المدينة المنكوبة، وصارت أشبه بمدينة للأشباح خاصة في الليل، إذ تم إغلاق المحال والأسواق والمطاعم جميعها بحسب ما وثقه معد التحقيق في جولته، وبدا الحي الشمالي فارغا بشكل تام، بسبب تركز القصف الكيمياوي عليه، ما أدى إلى خروج الأهالي منه للابتعاد عن مكان الغاز السام، بالإضافة إلى مرافقة المصابين، وفق شهادة أنس دياب، أحد أبناء مدينة خان شيخون.
يبلغ عدد سكان مدينة خان شيخون 52.972 نسمة، وفق آخر بيان إحصائي، تم إجراؤه عام 2004، بحسب ما يظهر على موقع المكتب المركزي للإحصاء في سورية، ويناهز عدد سكان المدينة 80 ألف نسمة في الوقت الحالي، وفق الناشط الإعلامي جابر أبو محمد، إذ استضافت المدينة نازحين من مناطق ريف حماة الشمالي، نتيجة المعارك بين النظام والمعارضة، لا سيما معردس وصوران، ويقوم اقتصاد المدينة على الزراعة والتجارة.
وخلفت الصواريخ الأربعة التي أطلقتها الطائرة الحربية التي قصفت خان شيخون حفراً فيها شظايا حديدية من جسم المقذوفات، ووضع ناشطون فيها وإلى جوارها لافتات حمراء وبرتقالية كُتب عليها خطر أسلحة غير متفجرة، حتى لا يقترب الأهالي منها، وفق شهادة الميكانيكي بكر السماني الذي يعمل ويقيم في حارة بيت يوسف التي تعرضت لإحدى الضربات.
عقب الضربة التي وقعت في السادسة والنصف صباحاً، توجّه بكر وأهالي الحارة إلى منطقة الضربة التي تقع في الحي الشمالي الذي تقصفه طائرات النظام بشكل شبه يومي، غير أن المشهد صار مرعباً، إذ بدأ الأهالي في السقوط كلما اقتربوا من مكان الانفجار، ويقول بكر لـ"العربي الجديد": "صرخ أحدنا مواد سامة، كل ما يحاول أحدنا إسعاف العالم يقع فوقهم، حتى الآن يخرج الدفاع المدني أهالي مخنوقين في بيوتهم".
توفى العديد من الضحايا من النساء والأطفال النائمين في منازلهم، بسبب وقوع الضربة في الصباح الباكر، بالإضافة إلى غياب التجهيزات الطبية الملائمة لاستقبال مئات الحالات، في الوقت الذي عمد النظام، منذ الثلاثاء، إلى استهداف مشفى خان شيخون، ومشفى الرحمه، ومركز الدفاع المدني في المدينة، والتي يبعدون قرابة 5 كيلومترات عن المكان المستهدف بالسلاح الكيمياوي، ما أدى إلى خروجها عن الخدمة، وفق ما وثق الناشط الإعلامي خالد الأحمد في شهادته التي أدلى بها لـ"العربي الجديد".
وأظهرت صور بثّها ناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي قيام الأهالي بدفن الجثث في مقابر جماعية، بينما ما زالت بعض الجثث في برادات المستشفيات الميدانية والنقاط الطبية.
اتهام قائد سرب بارتكاب المجزرة
تتسارع وتيرة التطورات السياسية والعسكرية بعد مجزرة خان شيخون في ريف إدلب، إذ ردّت الولايات المتحدة الأميركية بتدمير مطار الشعيرات الذي انطلقت منه الطائرة التي قصفت المدينة بغاز السارين، وفق ما يرجح اللواء المنشق عدنان سلو، مدير إدارة الحرب الكيمياوية السابق في إفادته عبر الهاتف لـ"العربي الجديد"، موضحاً أن الأعراض التي عانى منها الضحايا قبل وفاتهم والمصابين تؤكد ذلك، إذ ظهر على بعضهم خروج زبد من الفم وتشنج ووجع في العيون وفقدان التوازن وتشنجات عضلية متكررة، إضافة إلى إفرازات من الجهاز التنفسي، سعال وضيق في التنفس واختلاجات وتضيّق في الحدقات (حدقات دبوسية) وتعرّق وإسهال.
وعبر رصد ميداني توصل ناشطون في مرصد محلي يتنصت على محادثات قوات الأسد، إلى خروج طائرة من طراز سوخوي 22 تحمل اسم "قدس 1"، أقلعت فجراً من مطار الشعيرات يقودها العقيد الطيار محمد يوسف حاصولي المنحدر من مدينة تلكلخ غرب حمص، وورد اسم حاصولي في لائحة اتهام أصدرها القاضي المنشق عن نظام الأسد ومؤسس مجلس القضاء السوري الحر، خالد شهاب الدين، ضمن قائمة للمتهمين بارتكاب جرائم حرب في سورية، لافتاً في اللائحة التي أصدرها في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2012 إلى أن حاصولي يتبع للسرب 685 سوخوي.
الوقاية وتوثيق المجزرة
عقب وقوع هجوم كيمياوي، يجب خروج جميع الأشخاص من المنطقة الملوّثة بعكس اتجاه الريح، وفي حال كانت كان لديهم كمّامات عليهم ارتداؤها فوراً، وغسيل أجسادهم بمياه ساخنة وصابون، وفق ما ينصح به اللواء عدنان سلو.
وأوضح سلو أن غاز السارين لا لون له ولا رائحة ولكن تأثيره يبقى على سطح الأرض بنحو ارتفاع مترين، لافتاً إلى أن القصف بالسارين لديه عدّة شروط، أبرزها أن تكون سرعة الرياح 3 أمتار بالثانية، وأن تكون درجة الحرارة ما بين 22 إلى 25 درجة، وهو ما يفسّر الهجوم فجراً، مشيراً إلى أنه لو كانت درجة الحرارة 40 مثلاً فإن الغاز سيتبخّر بسرعة، ولن يقتل هذا العدد من المدنيين.
ويؤكد اللواء المنشق ضرورة جمع عينة من الصواريخ والتربة والمأكولات الموجودة في مكان القصف، إضافةً إلى عينات من أجسام المصابين، مثل الشعر أو البول أو حتى الأنسجة، لافتاً إلى أنها تُوضع من قبل مختصين مخبريين في أكياس وقوارير وتوضع في مكانٍ بارد ليتم تحليلها واستخراج النتائج التي تثبت القصف.
ودعا إلى الإسراع في هذه العملية "لأنه إذا مرّت فترة طويلة عقب الهجوم من الممكن أن يتبخّر الغاز ويختفي دليل"، مشيراً إلى "أن جهات تابعة للمعارضة دخلت بعد الضربة إلى مسرح الجريمة وقامت بعملية التوثيق لتعتمدها دليلاً تقدمه أمام المحاكم أو الجهات الدولية".
غياب الإرادة الدولية
بعد الهجوم بالكيمياوي على الغوطة الشرقية، أجبر مجلس الأمن النظام السوري على التوقيع على اتفاق نزع الأسلحة الكيمياوية، عبر إصدار القرار 2118، والذي نص على أن يُعاقب النظام في حال استخدم الأسلحة الكيمياوية مجدّداً باستخدام القوة ضده تحت البند السابع من ميثاق مجلس الأمن، بموجب المادة رقم 21 من القرار، وفق ما أكد المحامي والناشط القانوني سامر طلاس.
ويؤكد طلاس لـ "العربي الجديد": "إن القرار رقم 2118 كان من المفترض أن يردع النظام عن استخدام الأسلحة الكيمياوية، لكن لم يحدث ذلك، ما أدى إلى تكرار الخروقات من قبل النظام، بسبب عدم وجود إرادة دولية لاستخدام القوة خارج مجلس الأمن تحت الفصل السابع، الأمر الذي كان يمكن أن يؤدي إلى منع النظام عن تكرار جرائمه في حق السوريين".