"العربي الجديد" بعد عام: حرية - مهنية - تفاعل

30 مارس 2015
+ الخط -
حين أطلقنا قبل عام موقع "العربي الجديد" لم نبدأ من فراغ. كنا نعرف من أين ننطلق وإلى أين نتجه. وقفنا منذ صدورنا على المساحة التي شغلها الإنسان العربي الجديد، الأرض الصلبة التي حررها من نظام الطغيان، وسرنا نحو إنسانية كاملة للمواطن العربي.

لم نتخذ عقيدة راسخة من مسلمات المهنة، ولذا لم نكرر غيرنا، وظل يحدونا إيمان بالتمايز عن الآخرين. ونحن نبدأ تجربة جديدة في الصحافة العربية، كنا نرى أن الأمر يتعلق بطموح أقوى مما هو مقترح اليوم على القراء. ولذا كان للتحولات التي يشهدها العالم العربي فضل، ونتائج مباشرة على طرق اشتغالنا.

عملنا منذ اليوم الأول على أن نشرك القارئ معنا في الحلم، لأن العتبة الأولى في هذا الطريق، هي اللقاء مع القارئ، بوصفه الطرف الآخر في هذه المغامرة، التي نأمل لها أن تشكل إضافة نوعية في الشكل والمضمون. ذلك أننا نؤمن بتناغم سري، وعلاقة تلازمية بين الشكل والمحتوى.

 طموحنا أن نقدم تجربة مهنية جديدة قوامها الحرية والمهنية والتفاعل، ونحن ندرك ثقل العبء الذي يترتب علينا، وسط ما يشهده الوطن العربي والعالم من تحولات، فرضتها أحداث الربيع العربي، الذي هبت رياحه من تونس في نهايات عام 2010.

رغم مرور أكثر من أربعة أعوام على هذا الزلزال، ونجاحه في خلخلة البنى السائدة، ودخول العرب مرحلة جديدة فإن ذلك لم ينعكس بكل تجلياته. ومن الملاحظ أن المواكبة الإعلامية لهذا الحدث الكبير لا تزال تحتل الصدارة فيها القنوات الفضائية، أما الصحافة المكتوبة فإنها تتعاطى معه حتى الآن على نحو متفاوت، وتتراوح المعالجة بين التغطية اليومية والسجالات المتناثرة هنا وهناك، من دون أن يجمعها ناظم واحد، أو يؤطرها إطار نظري متين منطلق من إدراك البعدين الراهن والمستقبلي للحدث، وتفاعلاته السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وما يحمله من وعد بالتغيير الشامل للمواطن العربي، وخصوصاً في ما يتعلق بقضايانا الأساسية في الديمقراطية، التنمية، التعددية، المواطنة، والتحرر من الاحتلال الصهيوني.

أدركنا منذ البداية أن هذا التحول بحاجة إِلى منبر جديد يحفر فيه، ويقرأه، ويستشرفُ ممكناتِه اللاحقة، ويقفُ على التعبيرات الشعبية والوجدانية للأمة بشأنه، ويقع على الأَشواق الواسعة للشعوب العربية التي تأمل تحقّقها في أَثنائه، وذلك كله من دون أَنْ يتورط هذا المنبر بتشنجاتٍ وانفعالاتٍ متوترةٍ واستقطاباتٍ حادّة، بل ينتفحُ على كل الاجتهادات والتصورات، ولكنْ، صدوراً عن انحيازه المؤكد إِلى فكرة التغيير، وإِلى التسليم بحق المواطن العربي بالتغيير الذي يأخذه إِلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية.

مسوّغات هذه الضرورة عديدة ومتشعبة، بالطبع، ولكنها في العموم تنبثق من غاية حيوية واستراتيجية، هي تشكيل ما يشبه الحاضنة العريضة، والتعددية، التي تتيح التقاء الآراء والمواقف والتحليلات، مثلما تتيح التغطية الصحافية للوقائع اليومية التي تحفل بها تلك الثورات.
وبقدر ما كشفت هذه الثورات عن موشور عريض، سياسي وفكري وثقافي وإيديولوجي، بقدر ما توجب ملاقاة ذلك الموشور في إطار صحافي عصري، وتنوّعي، يسخّر أحدث منجزات تكنولوجيا الإيصال وتبادل المعلومات، على نحو يستجيب للروحية الشابة التي ميّزت انطلاق معظم الثورات.

ليست المسألة هيّنة، وليس تحقيق هذا الطموح ميسوراً ببساطةٍ، سيما وأَنَّ التشوش كثير، وأَنَّ المتاهات في القضية الفلسطينية واسعة، وكذا في المحنةِ السورية الراهنة، ونظن أَنَّ انتباهاً كبيراً ما زال واجباً لحماية الوجدان العربي من التبرّم من القضيتين، والرهان كبيرٌ أَنْ يكون المنبر منصَّةً وطنيةً عربيةً للتعبير عن الآراء والاجتهادات بشأنهما، صدوراً، دائماً، عن وعيٍ ينتبه دائماً إلى الإنسان أَولويةً، وإِلى حياته، وكريماً بالضرورة، أولى الأَولويات، وإِلى العروبة محتوىً إِنسانياً، لا يغفلُ عن الحرية والكرامة، مع إِفساح المجال أَمام أَيِّ آراء وأَفكارٍ وطروحاتٍ لا تغفل عن هذين الثابتين. ولمّا صار الإسلاميون في غير بلدٍ عربي، أَصحابَ حضورٍ وازنٍ، وحاكمٍ في دول عرفت التغييراتِ المعروفة في موجة الربيع الجديد، وكذا في المغرب والأردن، فإِنَّ الحاجةَ ملحةٌ إِلى منبر يخرجُ من حالة الاصطفاف الحادّة بين معادين لهم ومتحمسين لهم. ولعلَّ الحالة المصرية مختبرٌ تتضح فيه أَلوان التطرف الشديدة، الظاهرة بشأن الإسلاميين، ما يُسوّغ وصف الصورة هناك بأَنها صورةُ حربٍ إِعلاميةٍ ضروس. ونرى أَنَّ شيئاً من العقل صار مطلوباً، في منبر عربي جديد، تخوض فيه النخب العربية، سيّما الشبان في الحراكات غير القليلة، نقاشاً كاشفاً وهادئاً في هذه المسألة.

ولأنَّ التلوين السياسيَّ صار ملحوظاً في المعالجات الإخبارية في عدة قضايا في صحفٍ عربيةٍ لها احترامها الدائم، فإن الحاجة تبقى قائمةً إِلى منبرٍ يتخفَّف من هذه الحمولات، ما أَمكن، وإِنْ بالحفاظ على الرؤية الوطنية الجامعة، وإِلى الاعتناء الخالص بالمهنة الصحافية ذاتها، وبالمنافسة المشروعة على صعيد الحرفة والأداء، في تقديم الوجبات والجرعات الإخبارية والثقافية والترفيهية، في السياسة والثقافة والفنون والرياضة والاقتصاد والتسلية، وذلك بالحرص على لغةٍ رائقة، بعيدةٍ عن الحشو والإنشائيات المسترسلة والتطويل الممل والرتابة المضجرة، بل تقدم منتوجَها بكيفياتٍ أُسلوبيةٍ وسياسةٍ تحريريةٍ تحترم أَذواق القراء وعطشهم إِلى متعةٍ وبهجةٍ مأموليْن، عندما يطالعون مواد وتقارير وتحليلات وأخباراً ومعالجاتٍ ومحاوراتٍ ومقابلات وتغطيات وتحقيقاتٍ ومتابعاتٍ متنوعة.
وحين وضعنا في حسابنا أن يكون العربي الجديد ذا توجه تنويري وديمقراطي وعلماني ومدني، فإننا كنا على وعي بضرورة عدم التتشدد في أيّ من هذه الركائز من منطلقات توحي بـ"أصولية" مضادة. أول ميادين حيوية هذا المشروع الصحافي، كان الطموح إلى اكتساب وعي شعبي عربي ديمقراطي تحرري، واسع النطاق وصحّي، بالتعددية والاختلاف السلمي وتلاقح الأفكار وتعايشها.

نفهم الجديد في الصحافة اليوم بمعناه الواسع والمتنوع والغني في الحداثة وتاريخ الأفكار والأحداث، في الأفعال السياسية كما في التحولات الاجتماعية، من حياة الشعوب كما في حياة الأفراد. ولذا فإننا في جانب من رسالتنا نؤمن بأخذ الحوار نحو آفاق أوسع، بإخراجه من الغيتو الشكلاني الذي لا يهم إلا محترفين آخرين، وفتحه على السجال العريض للأفكار الذي تشترك فيه كل معرفة للإنسان.

وإذ ندرك أن هناك حاجة قصوى لمحتوى وشكل صحافي مختلفين، فإننا نرى دوراً كبيراً للشباب في تحقيق هذا الهدف. وقد بيّن الربيع العربي أن الشباب هم المدخل الأساسي لمعرفة الواقع، ووجهة المستقبل للوطن العربي، وما نشهده من حراك ما هو إلا نتيجة طبيعية لسعي الشباب نحو تحقيق ذاتهم. ورغم التغييب والتشويه الذي تعرض له الشباب العربي في العقود الأخيرة، إلا أن هذا الدينامو المعطل، بات يدرك طرق الفعل وتحقيق الذات. وجاء الربيع العربي تعبيراً واضحاً عن رفض الشباب العربي لاستمرار هذه الأنظمة السياسية الفاسدة والمفسدة، وإصراره على إعادة تعريف هويته.

ولأن المنبر الإعلامي، ليس منبراً سياسياً وفكرياً فقط، بل يتّجه إِلى مختلف الاهتمامات والمشاغل، ويسعى إِلى جذب مختلف الأَمزجة والميول لدى الجمهور الواسع والعريض إِليه، فإن التنوع الهائل في حساسيات الشباب في المجتمعات العربية، في غير مسألةٍ سياسيةٍ واجتماعية، وسط مغالبتهم مشكلاتٍ وقضايا عديدة، منها ندرة فرص العمل والبطالة، وقلة مبادرات اكتشاف طاقاتهم ومواهبهم وتثميرها، فإننا لمسنا بالتجربة الحاجة شديدة الإلحاح لمنبر عربي يتيحُ متنفساً أَوسع لهؤلاء الشباب، يضيء على مشكلاتهم وقضاياهم وانشغالاتهم وأَشواقهم، وينفتحُ على اهتماماتهم الفنية والثقافية والإبداعية، في الموسيقى والرسم والكتابة الأدبية، وكذلك في العمل الميداني الأَهلي والتطوعي، سيما في أَوضاعٍ شديدةِ الصعوبة في بيئات الصراع والاحتلال والتهميش والإقصاء، في سورية وفلسطين مثلاً، وفي أَريافٍ وقرى وبوادٍ في اليمن وموريتانيا والمغرب وغيرها.
في الموقع كما في الصحيفة نعول كثيراً على الأجيال الجديدة، ولذا أفردنا مساحات أساسية للشباب. سواء على صعيد فريق العمل، أوعلى حجم الفضاء المخصص لهم.
طموحنا هو صحافة حرة، محترفة، تفاعلية، حديثة، وذات وعي نقدي تنويري، ونفس تحرري، تعلي من قيمة الحوار والاختلاف، وثقافة المعنى، بوصفها إحدى وسائل التغيير وإدراك الذات والآخر والمحيط.
ولا يفوتنا في هذه الوقفة أن نخص الموقع الإلكتروني بحيز خاص، فنحن قبل كل شيء نرى فيه فضاء له كيانه المستقل، وليس وعاء نصب فيه محتوى الصحيفة، على ما درجت العادة في الصحافة حتى وقت قريب.
وإذ نشدد على مكانة الموقع الإلكتروني، لن نقول وداعاً للصحافة الورقية، ولن نشارك في حفلة رثاء الورق، بل نحن على قناعة بأن الصحيفة الورقية ستبقى مطلوبة ما دامت القراءة احتفال العقل البشري الحيوي والمتجدد. ولكن ذلك، لم يمنعنا من أن نلتحق بمنجزات الموجة الجديدة، ونخوض التجربة الإلكترونية، بوصفها تفتح آفاقاً جديدة للقارئ العربي، وتنقل المهنة إلى ضفاف بعيدة، تصبح فيها المعلومة أيسر منالاً وأقل كلفة وأكثر تعبيراً، وذات طاقة عالية على التوصيل.

المساهمون