"الشيوعي الأخير" وحرب الموصل

19 يوليو 2017

ليس من العدل اتهام سعدي يوسف بالطائفية

+ الخط -
لا أحد يعرف على وجه الدقة المذنب الأول الذي أثار كل هذه الضجة من حول "الشيوعي الأخير"، المغترب منذ سنين، والذي ظل يراقب بلده بحنينٍ طاغٍ يعكسه موقعه الإلكتروني، ومن خلاله يكتب، بين حين وحين، "نصوصاً" يعرض فيها موقفاً، أو يعطي رأياً في هذا الأمر أو ذاك، قد يجد بعض النقاد فيها ضعفاً في اللغة الشعرية أو القيمة الجمالية التي عُرف بها الشاعر، وهذا لا يقلل بأي حال من ملكته الشعرية التي جعلت منه واحداً من شعراء العربية الكبار الذين ما زالوا بيننا.
جديد ما فعله سعدي يوسف، وأثار جلبة، نشرُه نصاً كسر به "تابو" رسمه بعض مرتادي وسائل التواصل الاجتماعي، وبينهم كتاب ومثقفون، حرّموا من خلاله مناقشة ما جرى في حرب الموصل، حتى كادوا أن يصنفوا الآخر الذي يتجرأ فيكتب عن الدمار الذي أحدثته الحرب في البشر والحجر على حد سواء، على أنه "داعشي"، أو هو "طائفي" في أقل شتيمة.
أمطر هؤلاء سعدي بسيل شتائم وتهم مقذعة، وصلت إلى حد انتهاك شخصه وأسرته، كما طالبوا بحرق أشعاره علناً، فيما نأى قليل منهم عن ذلك، واكتفوا بوصف فعلته بأنها خطأ كان عليه، وهو الشاعر المعروف والناشط اليساري، أن يتجنبه. انشغل هؤلاء وأولئك بالنص أكثر مما انشغلوا بالقضية التي أرادوا الدفاع عنها، وهي قضية تحرير الموصل من قبضة "دولة الخلافة" التي آلت إلى السقوط، بعد أن أنهت مهمتها المرسومة لها.
لم يكن ما كتبه سعدي سوى شتيمة عابرة، قذفها بوجه أحد قادة حرب الموصل، وصفه فيها بأنه "عار" على عشيرته، وبأنه "المستنصر بغير الله (الذي) تكفّل بهدم الموصل، على رؤوس أهلها.. بأمرٍ من أسياده المحتلين، وبعونٍ من قوتهم النارية". وقبل هذا، كان سعدي قد كتب نصوصاً عدة، ربما كانت أكثر إثارةً من النص الأخير، واحد منها تعرّض فيه لأم المؤمنين السيدة عائشة، وفي حينه لم يتجرأ أحدٌ أن يتهمه بالطائفية، وهو المعروف بكونه
يسارياً، أكثر من ذلك بكونه شيوعياً معظم سنوات عمره، وقد عدّ نفسه "الشيوعي الأخير"، معتبراً أن حزبه قد انتهى عندما تماهى مع عرّابي الغزو الأميركي للبلاد، ودخل أمينه العام ممثلاً لطائفته في مجلس حكم بول بريمر.
الحق أن أحداً لا يستطيع أن يقلل من أهمية النصر الذي تحقّق في الموصل في القضاء على "دولة داعش" الهجينة التي عاثت في أرض الموصل فساداً، وانتهكت كل الحرمات، وتركت وراءها سجلاً أسود في القتل والتعذيب والاغتصاب والتدمير، ليس له حدود. والحق أيضاً أن هذا النصر جاء نتيجة التضحيات التي قدمها العراقيون من أجل وطنهم، وبمساعدة لا يمكن نكرانها من أصدقاء وجيران، وحتى من خصوم، قد تكون لكل منهم حساباته الخاصة في صنع النصر.
ولكن الحق أيضاً أن نشوة النصر على "داعش" لا ينبغي أن تمنعنا من مراجعة ما حدث، وممارسة النقد المطلوب، ورؤية ما أصبح ماثلاً على الأرض بعينين مفتوحتين، خصوصاً بعد أن أكد خبراء عسكريون كبار أن معارك الموصل كان يمكن أن تدار على نحو أفضل، وأن لا يلجأ قادتها في حالاتٍ كثيرة إلى استخدام أسلوب "الأرض المحروقة" الذي زاد في حجم الدمار الذي لحق بالمدينة، بشراً وحجراً، وبعد أن أفصحت تقارير موثقة لمنظمات دولية معتبرة عن أرقامٍ وحالاتٍ كشفت جوانب قصورٍ في التخطيط والأداء كان يمكن تجاوزها.
الأكثر من ذلك كان ينبغي أن يدفع نصر الموصل إلى تحديد مسؤولية من ساعد على دخول "داعش" إلى الموصل، ومن هرب تاركاً سلاحه وعتاده، ومن أمر جنوده بالهرب والاستسلام أمام زمرةٍ صغيرةٍ لم يتجاوز عدد أفرادها بضع مئات، وأن يُؤخذ هؤلاء إلى قضاء عادل للاقتصاص منهم، جرّاء خيانتهم الوطن وشرف العسكرية العراقية.
يصبح في النهاية من حق "الشيوعي الأخير" أن يقول كلمته في ما حدث، وإذا كان قد وضع مسؤولية كل الدم الذي سال، وكل الحجر الذي دمر وأهين في رقبة واحدٍ من الذين قادوا المعارك، فذلك محض خطأ صغير، لا يُقاس قطعاً بالجرائم والخطايا التي ارتكبها سياسيون وعسكريون كبار في مسألة "الموصل".
وفي النهاية أيضاً، لا نجد عدلاً في أن يُرجم "الشيوعي الأخير" بالداعشية أو الطائفية، أو أن ينبري شعراء وكتاب للمطالبة بحرق مجموعاته الشعرية، فتلك مفارقة لا تستحق سوى الرثاء.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"