"الشبكة النظيفة" .. حرب باردة أخرى

14 سبتمبر 2020
+ الخط -

ساحة الحرب المقبلة بين الولايات المتحدة والصين، ستكون، على ما يبدو، في العالم الافتراضي، إذ تلقّت بكين الخطة الأميركية التي أعلنها وزير الخارجية، مايك بومبيو، تحت اسم "برنامج الشبكة النظيفة"، بكثير من الغضب، لأنها تستهدف "تنظيف" شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) من حضور الشركات والبرامج الصينية، على مستويي الأجهزة والتطبيقات، تحت ذريعة حماية الأمن القومي الأميركي. ليس ذلك فحسب، بل راح بومبيو يبشّر بخطته تلك في أوروبا، لحث حكوماتها على أن تحذو حذو الولايات المتحدة في محاصرة انتشار تطبيقات ومواقع صينية، مثل برنامج التراسل الشهير "وي تشات"، وموقع "علي بابا" الخاص بالتسويق، وتطبيق مشاركة مقاطع الفيديو "تيك توك"، هذا فضلاً عن الدفع إلى خفض حصة شركة هواوي في سوقي أجهزة الهواتف المحمولة والبنية التحتية للإنترنت، متذرّعاً بأن الحكومة الصينية تستخدم تلك الأجهزة والتطبيقات للوصول إلى بيانات المستخدمين الأميركيين ومعلوماتهم، بشكل يهدّد الأمن القومي الأميركي.
تتضمن الخطة الأميركية خمسة محاور لمحاصرة التكنولوجيا الصينية المزدهرة، تشمل: الحوامل الرقمية، الأجهزة الذكية، السحابة الإلكترونية، التخزين الرقمي والكوابل. وقد شرعت الحكومة الأميركية فعلاً في إصدار تشريعاتٍ تمنع الشركات أو الأشخاص في الولايات المتحدة من التعاقد مع أيٍّ من الشركات الصينية المنتجة تلك الأجهزة والتطبيقات، بدأت حين هدّد الرئيس الأميركي، ترامب، مطلع أغسطس/ آب الفائت، شركة "بايت دانس" الصينية مالكة تطبيق "تيك توك" بحظر التطبيق ما لم يتم بيعه لشركة أميركية، ما أجبر الشركة الصينية على الاتفاق مع مايكروسوفت الأميركية على بيعها التطبيق فعلاً.

تذرّع بومبيو بأن الحكومة الصينية تستخدم الأجهزة والتطبيقات للوصول إلى بيانات المستخدمين الأميركيين ومعلوماتهم، بشكل يهدّد الأمن القومي الأميركي

للإنصاف، كانت الصين هي الأخرى قد تذرّعت، منذ عدة سنوات، بحماية الأمن الوطني الصيني، لحظر استعمال مواقع إنترنت أميركية واسعة الانتشار في العالم، مثل غوغل وفيسبوك، والبرامج والتطبيقات المرتبطة بهما، مثل يوتيوب وماسنجر وإنستغرام، وهذه كلها لا يستعملها الصينيون، ولا يمكن الدخول إليها بطريقة شرعية في الصين، لكن الخطوة الأميركية الخاصة بتحويل الإنترنت شبكة "نظيفة" من الحضور الصيني ذهبت أبعد مما فعلته الصين، إذ طاولت الأجهزة التي يستعملها الأفراد، والشبكات وأجهزة البث التي تستعملها المؤسسات والدول، وسعت للحيلولة دون تقدّم الصين في مجال تكنولوجيا الإنترنت، وهذا ما يتجاوز فكرة حماية الأمن الوطني، من خلال حماية بيانات الشعب من وصول حكومة أجنبية إليها.
ولم تتخذ الحكومة الصينية أي رد فعل مباشر، لكنها اعتبرت على لسان المتحدث باسم وزارة خارجيتها، وانغ ون بين، أن ما تقوم به الولايات المتحدة "تشويه خبيث وتلاعب سياسي"، يستهدف إدامة الاحتكار الأميركي للتكنولوجيا الرقمية، ما يخالف قواعد اقتصاد السوق ومبادئ منظمة التجارة العالمية. ولكن المتوقع أن الصين لن تقف مكتوفة الأيدي، وهي على الأقل قادرة على الرد بالمثل في شأن استخدام الصينيين الأجهزة والتطبيقات الأميركية، خصوصاً أن شركة آبل الأميركية منتجة أجهزة "آي فون" تستحوذ على حصة كبيرة في السوق الصينية، نتيجة إقبال الصينيين الكبير على اقتناء أجهزتها، بشكلٍ يفوق إقبالهم حتى على الأجهزة الصينية، مثل هواوي وأوبو التي تغزو الأسواق العالمية.

الصين تذرّعت، منذ سنوات، بحماية الأمن الوطني الصيني، لحظر استعمال مواقع إنترنت أميركية واسعة الانتشار في العالم، مثل غوغل وفيسبوك

ولما كان الصينيون لا يستعملون للتراسل إلا تطبيق "وي تشات" نتيجة حظر الحكومة الصينية تطبيق "واتساب" قبل نحو سنتين، وحظرها قبل سنوات مواقع التراسل الأخرى المرتبطة بفيسبوك، فإن حصة آبل في السوق الصينية الضخمة ستتراجع بالتأكيد، إذ لن يكون ممكناً لحاملي أجهزتها الذكية في الصين تنزيل تطبيق "وي تشات"، لأنه لن يكون متوفراً في متجر التطبيقات على الأجهزة (آبل ستور) بعد القرار الأميركي حظر تعامل الشركات الأميركية مع التطبيقات الصينية.
وليس سبب التهديد الذي تواجهه "آبل" في السوق الصينية اعتماد الصينيين على تطبيق "وي تشات" للتراسل وحسب، بل الأهم أنهم يستعملونه في مختلف مفاصل حياتهم، خصوصاً للدفع الإلكتروني، إذ يتراجع في السنوات الأخيرة اعتماد الصينيين على النقود بشكلها التقليدي، وعلى البطاقات الائتمانية أيضاً، ويتجهون إلى الدفع الإلكتروني من خلال "وي تشات"، سواء في المتاجر الكبيرة أو الصغيرة، بما فيها محلات البقالة في الأحياء الشعبية، وفي الدفع لسيارات التاكسي ووسائل النقل العام الأخرى، إلى درجة أن الصينيين يتندّرون بأنهم يستعملون الدفع الإلكتروني عبر "وي تشات"، حتى لشراء بيضة من بقالة صغيرة في طرف الحي! وهذا يعني أنهم لا يمكنهم الاستغناء عن "وي تشات"، حتى لو اضطروا للاستغناء عن "آي فون".

 الصينيون لا يستعملون إلا تطبيق "وي تشات" نتيجة حظر تطبيق "واتساب"، ومواقع التراسل الأخرى المرتبطة بفيسبوك، فتراجعت حصة آبل في السوق الصينية

ما يمكن استنتاجه من هذا السلوك الأميركي الذي ضاق ذرعاً بالنجاح الصيني في مجال التكنولوجيا، أن الولايات المتحدة لا تقبل السياسات والأفكار والاستراتيجيات الدولية التي تطرحها هي نفسها وتبشّر بها، بل وتخوض حروباً في العالم وتسقط أنظمةً تحت شعاراتها، إلا إذا كانت تخدم مصالحها، بينما ترفضها إذا أصبحت تلك السياسات والأفكار نفسها تتعارض مع نفوذها وسيطرتها. ببساطة، وإذا استعملنا المفردات التي فرضتها الولايات المتحدة والنظام الاقتصادي الغربي على العالم منذ انتهاء الحرب الباردة قبل ثلاثة عقود، فإن خطة "الشبكة النظيفة" الأميركية تتعارض مع أسس "العولمة" ومبادئ الإنفتاح الاقتصادي العالمي وتحويل العالم قرية صغيرة. لعل الولايات المتحدة لم تتخيل يوماً أن مفاهيمها عن الحرية الاقتصادية يمكن أن تقود إلى بروز ونجاح قوى جديدة في العالم، مثل الصين. لقد تخيّلت أن تلك المفاهيم أداة لها وحدها تستخدمها لفرض نفوذها على العالم.

الولايات المتحدة لا تقبل السياسات والأفكار والاستراتيجيات الدولية التي تطرحها هي نفسها وتبشّر بها

ما يُخشى منه على نطاق واسع، بخصوص الإقتصاد العالمي، أن الإجراءات الأميركية أحادية الجانب تلك قد تؤدي إلى فقدان المفاهيم الاقتصادية الدولية السائدة مصداقيتها، ومن ثم تعميق حالة فقدان الثقة بين دول مؤثرة في مجال صناعة التكنولوجيا، تقف الصين على أحد طرفيها بالطبع، خصوصاً إذا نجحت الولايات المتحدة في إقناع الدول الأوروبية الكبرى بأن تحذو حذوها، ما يعني تعطيل فرص الشراكة الدولية في تطوير شبكة الإنترنت، بل وتقسيم الإنترنت إلى أكثر من شبكةٍ يجد المستخدم في كل واحدة منها ما هو ممنوع وما هو مسموح، بدلاً من أن تكون شبكة عالمية واحدة، إذ ليس من المتصوّر أن تقف الصين موقف المتفرّج على إخراجها من أسواق التكنولوجيا العالمية الكبرى.
وفي المحصلة، وبينما تبدو الولايات المتحدة كمن يريد أن يفرض على البشرية التنازل عن خطواتٍ متقدّمة وناجحة حققتها الصين في مجال تطوير التكنولوجيا، لمجرّد أنه تم إنجازها في الصين، فإن العالم قد يكون متجهاً إلى شكل جديد من الحروب الباردة، لم يتصوّره أحد في زمن حروب الإمبراطوريات والأيديولوجيات، ويتناسب مع عصر ثورة التكنولوجيا الذي نعيشه.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.