23 أكتوبر 2024
"الترياق" الذي ينتظره العراقيون
قليلون من المهتمين بالشأن العام من العراقيين سمعوا باسم الهولندية، جينين هينيس بلاسخارت، وكثير منهم لا يمكنه أن يصدّق أن "الترياق" لأدواء العراق وأوجاعه يمكن أن تجلبه لهم امرأة أربعينية قادمة من بلادٍ تحفر أقدامها في عصور ما قبل التاريخ، حتى لو كان لتلك المرأة خبرة عشرين سنة في الدبلوماسية الدولية، مضافا إليها معرفة وإدارة عملية لشؤون الحرب والعسكر، اكتسبتهما في أثناء جلوسها على كرسي وزارة الدفاع في بلدها خمس سنوات، لكن الأمين العام للأمم المتحدة رأى، بحكمته وخبرته، أن انتداب سيدة مثلها لتمثله في العراق يمكن أن يشيع الأمل لدى مواطني هذا البلد في أن الخير قادم، ولو على مراحل، وأن "الترياق" يمكن أن تجلبه جينين هينيس بلاسخارت، ولو من أقصى الأرض. وهكذا، فإن العراقيين الذين أرهقتهم السنوات العجاف التي مرّت، والتي أثقلت عليهم بمقادير من المعاناة والآلام، بدأوا يقتنعون بأن شمعة واحدة في آخر النفق الطويل يمكن أن تفتح كوّة في الظلمة، ولو صغيرة، وأن تُشيع بعض الأمل في أن يصبح المستحيل ممكنا. لكن بعضهم غرق في التفاؤل، وحسب أن الدنيا تغيرت، فأتخم مواقع التواصل التي يتعامل معها بتغريداتٍ تشبه "البيان رقم واحد" الذي اعتاد جيلنا العتيق سماعه من الإذاعة يوم كان الراديو يحكم المدينة ويغير مآلاتها. ومن هذا البعض مَن أشاع أن مجلس الأمن، بتوصية مفترضة من بلاسخارت، سوف يعيد العراق إلى سطوة "البند السابع"، وعبر هذا القيد سوف يشكل حكومة انتقاليةً تقيم العدل، وتحاسب من نهب ومن أساء!
لم تكن بلاسخارت في وارد أن تقرأ هذا اللغو المفعم بالمرارة واليأس، إنما فضلت أن تنصرف إلى عملها منذ اليوم الأول لوصولها إلى بغداد، سمعت من المسؤولين العراقيين الكثير، وكانت شاهدةً على كثير مما لم تسمعه من مسؤول، وإذ لم يكن من خصالها أن تقول كل ما سمعته أو تفضي بكل ما شهدته بنفسها، وهي التي يفرض عليها موقعها الدبلوماسي الرفيع أن تقول الحقيقة، فإنها تكلمت أمام مجلس الأمن بما يكفي، واختارت عباراتِها بعنايةٍ على طريقة "اللغة حمّالة الأوجه"، فهم منها المتلقي ما لم تقله باللسان العريض، وقد رسمت خطوطا لما في استطاعة العراقيين فعله كي يتجاوزوا المحنة التي وضعتهم فيها أقدارٌ شرّيرة، لكنها كشفت عن نصف الحقيقة، وتركت النصف الآخر كي تقوله في مذكراتها بعد تقاعدها، ومؤكّد أن ما ستقوله لاحقا كان سيغير أحوالا ومآلاتٍ لو قالته اليوم.
أرادت بلاسخارت، كعادة الليبراليين الديمقراطيين، وهي منهم، أن تقول إن في العراق فرصا
عديدة للتغيير وللتطور الديمقراطي، إذ "إن ترسيخ الديمقراطية يحتاج وقتا كثيرا، وكثيرا من العمل الشاق"، وقد دسّت، في عبارتها هذه، جرعة تفاؤلٍ مقصودة، مع أنها تعرف أن العراقيين عاشوا أكثر من ستة عشر عاما في ظل الديمقراطية التي وعدهم بها الأميركيون، ولم يجدوا فيها أكثر من جعجعةٍ من دون طحين أو خبز.
وفي "إحاطتها" أمام مجلس الأمن، عمدت إلى تصنيف المشكلات التي يعاني منها العراق: "مصالح وذرائع فردية، مظالم واختلافات طويلة الأمد بين المكونات والكيانات السياسية، جهات مسلحة تنخرط في أنشطة غير قانونية أو إجرامية تقوّض سلطة الدولة، شبكات لها سلطة مخفية تعمل باستقلالية تسعى إلى تحقيق أهداف ومقاصد ضيقة". وألحقت بلاسخارت هذه الألغاز ببعض التوضيح، كي تُشعر المتابع أنها تضع وصفتها أمام العراقيين، كي ينتفعوا بها، ولو بقدر، وهي تدرك أنها غير قادرةٍ على جلب "الترياق" الذي يبحثون عنه، تقول: "إن فرصا عديدة ناشئة عن جهود مكثفة للمصالحة ضاعت"، و"إن الأموال التي ينبغي أن تصرف على الخدمات العامة تذهب إلى جيوب خاصة"، و"إن إعادة تشكيل هيكل الأمن القومي.. ووضع الحشد الشعبي والبيشمركة في قوة أمنية إقليمية واحدة، أمر ضروري".. إلخ. في نهاية المطاف، تعود لتذكّرنا بـ"أن التغيير لن يأتي بين ليلة وضحاها"، وتنصح الحكام "أن يرجّحوا كفة الصالح العام على المصالح الخاصة أو الحزبية"، كي يستقيم الحال، ويتحقق المآل الذي نريده!
أغلب الظن أن رجال الحكومة لم يكلفوا أنفسهم بالاطلاع على ما قالته بلاسخارت، وبعضهم ربما لم يسمع باسمها بعد. وأغلب الظن أيضا أنها سوف تكمل مشوارها وترحل، لكن العراقيين سوف يظلون ينتظرون من يجلب لهم "الترياق"، ولو من أقصى العالم!
لم تكن بلاسخارت في وارد أن تقرأ هذا اللغو المفعم بالمرارة واليأس، إنما فضلت أن تنصرف إلى عملها منذ اليوم الأول لوصولها إلى بغداد، سمعت من المسؤولين العراقيين الكثير، وكانت شاهدةً على كثير مما لم تسمعه من مسؤول، وإذ لم يكن من خصالها أن تقول كل ما سمعته أو تفضي بكل ما شهدته بنفسها، وهي التي يفرض عليها موقعها الدبلوماسي الرفيع أن تقول الحقيقة، فإنها تكلمت أمام مجلس الأمن بما يكفي، واختارت عباراتِها بعنايةٍ على طريقة "اللغة حمّالة الأوجه"، فهم منها المتلقي ما لم تقله باللسان العريض، وقد رسمت خطوطا لما في استطاعة العراقيين فعله كي يتجاوزوا المحنة التي وضعتهم فيها أقدارٌ شرّيرة، لكنها كشفت عن نصف الحقيقة، وتركت النصف الآخر كي تقوله في مذكراتها بعد تقاعدها، ومؤكّد أن ما ستقوله لاحقا كان سيغير أحوالا ومآلاتٍ لو قالته اليوم.
أرادت بلاسخارت، كعادة الليبراليين الديمقراطيين، وهي منهم، أن تقول إن في العراق فرصا
وفي "إحاطتها" أمام مجلس الأمن، عمدت إلى تصنيف المشكلات التي يعاني منها العراق: "مصالح وذرائع فردية، مظالم واختلافات طويلة الأمد بين المكونات والكيانات السياسية، جهات مسلحة تنخرط في أنشطة غير قانونية أو إجرامية تقوّض سلطة الدولة، شبكات لها سلطة مخفية تعمل باستقلالية تسعى إلى تحقيق أهداف ومقاصد ضيقة". وألحقت بلاسخارت هذه الألغاز ببعض التوضيح، كي تُشعر المتابع أنها تضع وصفتها أمام العراقيين، كي ينتفعوا بها، ولو بقدر، وهي تدرك أنها غير قادرةٍ على جلب "الترياق" الذي يبحثون عنه، تقول: "إن فرصا عديدة ناشئة عن جهود مكثفة للمصالحة ضاعت"، و"إن الأموال التي ينبغي أن تصرف على الخدمات العامة تذهب إلى جيوب خاصة"، و"إن إعادة تشكيل هيكل الأمن القومي.. ووضع الحشد الشعبي والبيشمركة في قوة أمنية إقليمية واحدة، أمر ضروري".. إلخ. في نهاية المطاف، تعود لتذكّرنا بـ"أن التغيير لن يأتي بين ليلة وضحاها"، وتنصح الحكام "أن يرجّحوا كفة الصالح العام على المصالح الخاصة أو الحزبية"، كي يستقيم الحال، ويتحقق المآل الذي نريده!
أغلب الظن أن رجال الحكومة لم يكلفوا أنفسهم بالاطلاع على ما قالته بلاسخارت، وبعضهم ربما لم يسمع باسمها بعد. وأغلب الظن أيضا أنها سوف تكمل مشوارها وترحل، لكن العراقيين سوف يظلون ينتظرون من يجلب لهم "الترياق"، ولو من أقصى العالم!