05 نوفمبر 2024
"الأرض مقابل السلام".. في سورية وعليها
منذ خمسين عامًا، أي منذ الخامس من يونيو/ حزيران عام 1967، وقعت واقعة في منطقتنا العربية مازلنا، نحن الشعوب العربية، ندفع ثمنها. إنها "النكسة"، الكلمة الأشهر والأقوى، إذ يكفي أن نوردها معزولةً وبدون أي إضافة، حتى نعرف أنها تعني "هزيمة" الحرب التي انطلقت أولى قذائفها في الخامس من حزيران/ يونيو، وخلفت وراءها واقعًا مهزومًا مأزومًا، مثلما خلفت جيلنا، نحن أمهات (وآباء) الشباب الحالي الذي أراد أن يمسك بمصيره، ويصنع مستقبله، مستعيدًا كرامته وكرامتنا، منتفضًا في وجه الطغيان والاستبداد بكل أشكاله، خلفته جيلاً تسكنه الهزيمة ويملأه الإحباط، وتشغله الأسئلة الوجودية وسؤال البحث عن الذات الضائعة أو المضيّعة.
إسرائيل كيان عنصري محتل، استوطن أرضًا عربية، هي جزء من فضائنا الجغرافي السوري، وتاريخنا القديم والحديث، هي نموذجٌ فريدٌ من الاستعمار لم يأتِ ليرحل، بل ليؤسّس ويضرب جذورًا في أرضنا، ويمحو تاريخنا وهويتنا المتشكلة عبره. عندما دعا وزير الخارجية السوفييتي، أندريه غروميكو، يوم 12 يونيو/ حزيران 1967، إلى عقد دورة استثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة التي بلغ عدد أعضائها حينها 122 عضوًا، بعد أن أنهكت النكسة، أو حرب الأيام الستة كما تسميها إسرائيل، الجيوش العربية المشاركة في الحرب، ودمرت قدراتها العسكرية بطريقة مفجعة، ردّ وزير الخارجية الإسرائيلي يومها، ابا إيبان، بوقاحة فجة: "لن تعترف إسرائيل بأي قرار يصدر عن الأمم المتحدة، وتطلب منها فيه الانسحاب إلى داخل حدودها السابقة، حتى إذا صوتت مع القرار 121 دولة، ولم يصوت ضده سوى إسرائيل".
خمسون عامًا، وما زالت إسرائيل تضرب عرض الحائط بكل القرارات الدولية الملزمة وغير الملزمة، ماضية في بناء مستوطناتها وقضم الأراضي الفلسطينية وتهويد القدس ومحو الهوية التاريخية لفلسطين، ليس هذا فحسب، بل محوها خارج حدود فلسطين، فهي تسرق التراث الفلسطيني، وتقدمه إلى العالم تراثها، من الحمص بالطحينة إلى أقصى ما يمكن للتراث الشعبي أن يحتوي.
في كل المفترقات والأحداث والاتفاقيات والمعاهدات، كانت قضية فلسطين المركز، وما تلاها من تصدّع الحياة السياسية والاجتماعية في لبنان من حربٍ أهليةٍ واجتياح إسرائيلي والدخول السوري إلى لبنان والوجود الفلسطيني والمواجهات بين النظام الحاكم وجماعة الإخوان المسلمين في سورية، وما تلاه من تحولات في البنية الاجتماعية السورية، اضطرادًا مع ازدياد سطوة الطغيان، وقضائه التام على الحراك السياسي في سورية الذي أحدث فجوةً ملأتها الردة الدينية والطائفية والقبلية.
أما ما جرى من أحداث، وكيف كانت مسيرة التاريخ، بالأحرى كيف كان التاريخ يصنع بعدها، فيجب أن يكون حاضرًا في ذاكرة الجيل الشاب، جيل أبنائنا، جيل ما سمي الربيع العربي، خصوصًا بعدما صدعت سمعه عبارة "الأرض مقابل السلام" والمبادرات والدعوات التي تدعو إلى اعتبار النزاع العربي الإسرائيلي منتهيا، والدخول في اتفاقية سلام بينها وبين إسرائيل مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة، وإنشاء علاقاتٍ طبيعية مع إسرائيل، في إطار هذا السلام الشامل، وضمان رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني الذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة. لم يحدث شيء من هذا، بل ذهبت دولٌ وأنظمة عربيةٌ إلى عقد اتفاقات منفردة مع إسرائيل، وبعضها اندفع باتجاه التطبيع، وبقيت الشعارات تدوّي في سماء هزائمنا المتلاحقة، والتفاصيل التي يقال إن الشيطان يسكنها ترمينا في دوامتها فندوخ معها.
بعد النكسة التي جللت نفوسنا بالهزيمة، تتوالى هزائمنا، تتبدّد أحلام أبنائنا، تنقض على وطننا القوى الطامعة والظلامية تدير حروبها فوق أرضنا وبأرواح شعبنا، بشعاراتٍ خبيثة ماكرة: محاربة الإرهاب، بينما إسرائيل ماضيةٌ في بناء المستوطنات، في مصادرة القرار الفلسطيني، في محاصرة الشعب الفلسطيني، في بناء ذاتها دولة قوية في جميع المجالات، برعاية أميركية، تقيم أميركا قواعدها فوق أراضينا، تدير حروبها بما يفيض عن كرم النفط الطائي، وجديد هذا الكرم ما غمر دونالد ترامب في زيارته أخيرا السعودية التي غادرها مخلفًا وراءه شرارة بين مصر وليبيا، مصر والسودان، السعودية ودول الخليج مع قطر. ونحن في سورية نخسر وطنًا، تتقاسمه الرايات، يثير غريزة الطامعين في الجوار، يلعب بمصيره الكبار، بعد ما يقارب
السنوات السبع من انتفاضة الشعب، تصبح سورية سورياتٍ أصغر، ويدفعنا اللعب العالمي والإقليمي إلى موائد يصنعها عامرةً بما يقدّم من صنوف المفاوضات بين أبناء شعب واحد على كعكةٍ شهيةٍ كانت تصنف وطنًا لكل المتفاوضين. فقدت سورية السلام، ولم يجدِ شعار الأرض مقابل السلام الذي لم يبقَ منه غير صدىً أجوف يدفع ثمنه شعب دولة "الممانعة" من لقمته وكرامته ومستقبله على مر السنين.
مفاوضات اليوم لن يجديها نفعًا شعار السلام مقابل أرض سورية التي يتناهبها احتلال روسي إيراني تركي أميركي بالنيابة أو الأصالة، فالسلام في سورية مضمرٌ في نفوس شعبها المغيب عن صنع مصيره، شعبها الذي بدّده الفاعلون السياسيون والميدانيون المرتهنون لأطراف الصراع بين موالاةٍ ومعارضةٍ وقسمه إلى فرق وطوائف وقبائل وإثنيات وتيارات متناحرة، جلها يصر على "الأرض مقابل السلام"، الأرض التي يضمرها لسلطته وسلطانه، بينما سورية هي أرض كل أبنائها، والمتفاوضون ما زالوا يستجدون الحل من أميركا تارة، أو ينتظرون ما تجود به قريحة روسيا تارة أخرى، روسيا التي لم تزل في خلدهم ظلا للاتحاد السوفييتي، مقيدين بالأنساق المحشورين فيها، من دون أن يكون لهم الحق في القرار.
ليس هذا أكثر من إضاءةٍ على ما فات أبناءنا من تاريخٍ جعل منا مهزومين بارعين بجلد الذات، بينما الطغيان يستشري وينمو ويكبر وينشطر مثل الفطر بين ظهرانينا، والتاريخ يقطع أزمنتنا إلى مراحل ومفاوضات وقراراتٍ تجعلنا غافلين عن استنقاعنا في قاعه. وكل من يدّعي صداقة شعبنا يدّعي زورًا، ليس من صديقٍ لنا غير أنفسنا التي تنتظر نورًا يضيء أعماقنا، ويجعلنا نقرأ التاريخ القريب، وليس البعيد، بنتائجه كي لا يتكرّر، كي نُرحم من جنيف 30 و50 أو أستانة اللاحق وتفاصيلهما التي تشغلنا عن الواقع المرير لبلادنا. ما يضمن حياتنا هو عيشنا المشترك فوق أرض سورية كاملة معافاة، فهل سنتأخر حتى نفهم الحقيقة؟
إسرائيل كيان عنصري محتل، استوطن أرضًا عربية، هي جزء من فضائنا الجغرافي السوري، وتاريخنا القديم والحديث، هي نموذجٌ فريدٌ من الاستعمار لم يأتِ ليرحل، بل ليؤسّس ويضرب جذورًا في أرضنا، ويمحو تاريخنا وهويتنا المتشكلة عبره. عندما دعا وزير الخارجية السوفييتي، أندريه غروميكو، يوم 12 يونيو/ حزيران 1967، إلى عقد دورة استثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة التي بلغ عدد أعضائها حينها 122 عضوًا، بعد أن أنهكت النكسة، أو حرب الأيام الستة كما تسميها إسرائيل، الجيوش العربية المشاركة في الحرب، ودمرت قدراتها العسكرية بطريقة مفجعة، ردّ وزير الخارجية الإسرائيلي يومها، ابا إيبان، بوقاحة فجة: "لن تعترف إسرائيل بأي قرار يصدر عن الأمم المتحدة، وتطلب منها فيه الانسحاب إلى داخل حدودها السابقة، حتى إذا صوتت مع القرار 121 دولة، ولم يصوت ضده سوى إسرائيل".
خمسون عامًا، وما زالت إسرائيل تضرب عرض الحائط بكل القرارات الدولية الملزمة وغير الملزمة، ماضية في بناء مستوطناتها وقضم الأراضي الفلسطينية وتهويد القدس ومحو الهوية التاريخية لفلسطين، ليس هذا فحسب، بل محوها خارج حدود فلسطين، فهي تسرق التراث الفلسطيني، وتقدمه إلى العالم تراثها، من الحمص بالطحينة إلى أقصى ما يمكن للتراث الشعبي أن يحتوي.
في كل المفترقات والأحداث والاتفاقيات والمعاهدات، كانت قضية فلسطين المركز، وما تلاها من تصدّع الحياة السياسية والاجتماعية في لبنان من حربٍ أهليةٍ واجتياح إسرائيلي والدخول السوري إلى لبنان والوجود الفلسطيني والمواجهات بين النظام الحاكم وجماعة الإخوان المسلمين في سورية، وما تلاه من تحولات في البنية الاجتماعية السورية، اضطرادًا مع ازدياد سطوة الطغيان، وقضائه التام على الحراك السياسي في سورية الذي أحدث فجوةً ملأتها الردة الدينية والطائفية والقبلية.
أما ما جرى من أحداث، وكيف كانت مسيرة التاريخ، بالأحرى كيف كان التاريخ يصنع بعدها، فيجب أن يكون حاضرًا في ذاكرة الجيل الشاب، جيل أبنائنا، جيل ما سمي الربيع العربي، خصوصًا بعدما صدعت سمعه عبارة "الأرض مقابل السلام" والمبادرات والدعوات التي تدعو إلى اعتبار النزاع العربي الإسرائيلي منتهيا، والدخول في اتفاقية سلام بينها وبين إسرائيل مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة، وإنشاء علاقاتٍ طبيعية مع إسرائيل، في إطار هذا السلام الشامل، وضمان رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني الذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة. لم يحدث شيء من هذا، بل ذهبت دولٌ وأنظمة عربيةٌ إلى عقد اتفاقات منفردة مع إسرائيل، وبعضها اندفع باتجاه التطبيع، وبقيت الشعارات تدوّي في سماء هزائمنا المتلاحقة، والتفاصيل التي يقال إن الشيطان يسكنها ترمينا في دوامتها فندوخ معها.
بعد النكسة التي جللت نفوسنا بالهزيمة، تتوالى هزائمنا، تتبدّد أحلام أبنائنا، تنقض على وطننا القوى الطامعة والظلامية تدير حروبها فوق أرضنا وبأرواح شعبنا، بشعاراتٍ خبيثة ماكرة: محاربة الإرهاب، بينما إسرائيل ماضيةٌ في بناء المستوطنات، في مصادرة القرار الفلسطيني، في محاصرة الشعب الفلسطيني، في بناء ذاتها دولة قوية في جميع المجالات، برعاية أميركية، تقيم أميركا قواعدها فوق أراضينا، تدير حروبها بما يفيض عن كرم النفط الطائي، وجديد هذا الكرم ما غمر دونالد ترامب في زيارته أخيرا السعودية التي غادرها مخلفًا وراءه شرارة بين مصر وليبيا، مصر والسودان، السعودية ودول الخليج مع قطر. ونحن في سورية نخسر وطنًا، تتقاسمه الرايات، يثير غريزة الطامعين في الجوار، يلعب بمصيره الكبار، بعد ما يقارب
مفاوضات اليوم لن يجديها نفعًا شعار السلام مقابل أرض سورية التي يتناهبها احتلال روسي إيراني تركي أميركي بالنيابة أو الأصالة، فالسلام في سورية مضمرٌ في نفوس شعبها المغيب عن صنع مصيره، شعبها الذي بدّده الفاعلون السياسيون والميدانيون المرتهنون لأطراف الصراع بين موالاةٍ ومعارضةٍ وقسمه إلى فرق وطوائف وقبائل وإثنيات وتيارات متناحرة، جلها يصر على "الأرض مقابل السلام"، الأرض التي يضمرها لسلطته وسلطانه، بينما سورية هي أرض كل أبنائها، والمتفاوضون ما زالوا يستجدون الحل من أميركا تارة، أو ينتظرون ما تجود به قريحة روسيا تارة أخرى، روسيا التي لم تزل في خلدهم ظلا للاتحاد السوفييتي، مقيدين بالأنساق المحشورين فيها، من دون أن يكون لهم الحق في القرار.
ليس هذا أكثر من إضاءةٍ على ما فات أبناءنا من تاريخٍ جعل منا مهزومين بارعين بجلد الذات، بينما الطغيان يستشري وينمو ويكبر وينشطر مثل الفطر بين ظهرانينا، والتاريخ يقطع أزمنتنا إلى مراحل ومفاوضات وقراراتٍ تجعلنا غافلين عن استنقاعنا في قاعه. وكل من يدّعي صداقة شعبنا يدّعي زورًا، ليس من صديقٍ لنا غير أنفسنا التي تنتظر نورًا يضيء أعماقنا، ويجعلنا نقرأ التاريخ القريب، وليس البعيد، بنتائجه كي لا يتكرّر، كي نُرحم من جنيف 30 و50 أو أستانة اللاحق وتفاصيلهما التي تشغلنا عن الواقع المرير لبلادنا. ما يضمن حياتنا هو عيشنا المشترك فوق أرض سورية كاملة معافاة، فهل سنتأخر حتى نفهم الحقيقة؟
دلالات
مقالات أخرى
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024
05 أكتوبر 2024