مرة أخرى يلتفت المخرج الإيطالي ناني موريتي (1953) إلى محيطه لكي يصنع فيلماً جديداً، وهي عادة طبعت مسيرته الفنية كلّها. فبعد أن صنع أفلاماً عن العائلة، وعن مشاكل إيطاليا، يُضيّق الآن من قُطر رؤيته ويصنع فيلماً عن أمّه.
يقترح موريتي في جديده "أمي" قصة تدور حول المخرجة مارغيريتا (الممثلة مارغيريتا باي) التي تُخرج فيلماً حول تبعات الأزمة المالية الأخيرة في إيطاليا، واحتجاجات عمّال أحد المصانع في وجه مُشغّلهم بسبب سياسة الطرد وخفض الأجور. مارغيريتا تضمّ إلى طاقمها باري هوغينز (الممثل جون تارتورو) في دور نجم سينمائي أميركي من أصل إيطالي، يؤدي دور مدير المصنع وتضعه الأحداث في مواجهة مع العمّال الثائرين.
ومن جهة ثانية، تعيش مارغيريتا تحت ضغط العمل من أجل إنهاء التصوير، ووجود أمها (الممثلة جوليا لازاريني) في المستشفى. تحاول مارغيريتا أن تجد وقتاً كافياً تقضيه مع والدتها التي تعلم أن أيامها صارت معدودة بتأكيدات من الأطباء. لكنها لا تنجح في ذلك مثلما يفعل شقيقها جيوفاني في أداء جميل من موريتي نفسه، الذي يقضي معظم وقته برفقة أمّه ويترك عمله لهذه الغاية. بينما لا تستطيع هي تحمّل ضغط العمل والتعايش مع حقيقة فقدان أمّها المحتومة.
يطرح موريتي في فيلمه جوانب كثيرة للمعالجة، بعضها بادٍ والآخر خفي، فعبر خط سردي كلاسيكي عن وفاة الأم، تتحرّك حكاية أخرى عن السينما. فالمخرجة تفشل في التواصل مع طاقمها؛ تصرخ ولا تستقر على طلبات محددة.
في مشهد هادئ، تعترف أنها لم تحاول أبداً فهم عبارة "على الممثل أن يقف بجانب الشخصية التي يؤديها"، وهي قاعدة كانت تحاول تلقينها لكل ممثل يعمل معها، لكن لا أحد كان يفهم المطلوب منه، حتى باري الذي يتفاخر بمشاركته في 105 أفلام وعمله مع ستانلي كوبريك. السينما حضرت بأسمائها التاريخية أيضاً؛ وفي لحظة انتشاء، صرخ باري في شوارع روما بأسماء إيطالية عظيمة في عالم السينما مثل فيليني وروسوليني.
وبغض النظر عن القيمة الفنية لفيلم "أمي" بالمقارنة مع أعمال موريتي المشهورة، فلهذا العمل قيمته أيضاً، فالرجل لم يهمل الثوابت الفنية المعروفة عنه؛ إذ ظل وفياً لصناعة أفلام واقعية إيطالية اللغة والمواضيع، حيث يرصد مشاكل بلاده ويجعلها أولوية في كل عمل، بعكس ما فعله مواطنه باولو سورونتينو في آخر أعماله.
فتح موريتي كواليس صناعة الأفلام أمام المتفرّج، أظهر معاناة المخرج في تحقيق أفكاره السينمائية، وحاول أن يمرّر مجموعة من الأفكار التي يجهلها المُشاهد؛ ففكرة النجاح في مجال السينما تأتي على حساب خسارات عائلية فادحة، باعتبار أن المخرجة في الفيلم فقدت علاقتها الزوجية، ثم علاقة أخرى مع زميل في العمل، إضافة إلى عدم قدرتها على التواصل مع ابنتها بالشكل المطلوب.
أظهر موريتي أيضاً أن السينما ليست مهنة مُسلّية كما نعتقد، فحتى الممثل المتمرّس يواجه مشاكل كبيرة في عمله تجعله يرغب بالعودة إلى الواقع، وهو ما حصل مع الممثل باري وهو يفشل في استحضار جملة واحدة من حواره في الفيلم.
ليس صعباً اكتشاف عودة موريتي إلى سيرته في الفيلم، وتردّد صداها في أفلامه السابقة والمعروفة في مهرجان "كان" السينمائي تحديداً كـ "أبريل" (1998). ورغم ما يبدو من اختفاء أثرها، بوجود مارغيريتا في دور المخرجة، إلا أنها انعكاس لصورته، فملامح موريتي الحزينة وهو يواسي شقيقته، وإظهاره الكثير من التفهّم لوضعها من دون محاسبتها على تقصيرها تجاه العائلة هي محاولة منه، ربما، للاعتذار عن الوقت الذي أخذته منه السينما على حساب عائلته. لكنه، رغم ذلك، يجعل من هذا العذر -عبر الوقوف على صعوباته- رسالة بأن هذه المهنة تستحق التضحية.