يعدّ ملف المغيبين قسراً في العراق أحد أبرز الملفات الإنسانية التي فشلت الجهات الحقوقية والإنسانية الدولية والمحلية في تحقيق أي تقدّم فيها ومعرفة الأعداد الحقيقية للمغيبين في سجون الحكومة والمليشيات وصولاً إلى الإفراج عنهم. وما زالت آلاف العائلات تحاول معرفة مصير أبنائها الذين اعتقلوا على يد مليشيات وقوات حكومية، حيث يقولون إن الاعتقالات حدثت لأسباب طائفية. في هذا السياق، تروي آسيا قصة شقيقها عبد الرحمن الذي اعتقلته مليشيات مسلحة في قريته شرقي قضاء الصقلاوية في محافظة الأنبار، غربي البلاد. تقول إنها ومجموعة كبيرة من أقاربها وسكان تلك المنطقة لم يعرفوا مصير أبنائهم وأقاربهم المفقودين حتى اليوم. حدث ذلك في يونيو/ حزيران من عام 2016، حين داهمت القوات الحكومية ومليشيات مسلحة (مليشيا كتائب حزب الله بحسب السكان) القرية.
وتشير آسيا في حديثها لـ "العربي الجديد" إلى أنهم حصلوا على معلومة من مقربين تواصلوا مع جهات أمنية، أفادت بأنّ من اعتقلتهم المليشيات زجوا في معتقلات خاصة بكتائب حزب الله تقع في منطقة جرف الصخر، 60 كيلومتراً جنوب غرب بغداد. هؤلاء المقربين أكدوا أنّ "جميع من اعتقلوا ليس لهم أي ذنب سوى أن تلك المليشيات طائفية. شقيقي كان طالباً جامعياً ولا ينتمي إلى أية جهة مسلحة. لماذا لم نحصل على أي رد ولا نعرف مصيره؟ اعتقلوه من بيتنا مثلما فعلوا مع مئات الرجال في منطقتنا. حتى وإن كانوا مجرمين وإرهابيين علينا أن نلتقي بهم ونعرف مصيرهم".
وتحوّل سكان المناطق التي سيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" بين عامي 2014 و2017 إلى "إرهابيين بنظر المليشيات الطائفية"، بحسب حسن الجبوري الذي استقر مع عائلته في مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان شمالي العراق، بعد مداهمة منزله واعتقال ولده وعدد من أبناء قريته في محافظة صلاح الدين (شمال). يقول لـ "العربي الجديد" إنه لم يعرف مصير ولده البكر حتى اليوم منذ اعتقاله في عام 2015 من قبل مليشيات مسلحة. يضيف: "بهدف حماية بقية أفراد أسرتي، هربنا جميعاً الى أربيل. منذ ذلك الحين وأنا أقيم فيها. وعلى الرغم من تحسن الوضع الأمني، فقدتُ الثقة باستقرار الأمن وأخشى أن تعتدي المليشيات الطائفية علينا مرة أخرى".
ويوضح الجبوري: "اعتقال أبنائنا لم يكن مستغرباً من قبلنا نحن سكان صلاح الدين في تلك الفترة، بل كنا نتوقع أن تحصل مجزرة وعمليات اعتقال في أي وقت، باعتبار أن هذا ما بدأ يظهر على السطح حينذاك من قبل المليشيات". يضيف: "نعلم الغاية جيداً، فمهمة المليشيات هي فرض نفوذها في مناطق محددة من البلاد وتغيير ديموغرافيتها مستغلة داعش وجعله سبباً لتنفيذ خطتها. وهذا ما حصل حين اعتقلت الآلاف من الأبرياء ومنهم ولدي، ولا نعرف مصير أحد حتى اليوم".
يضيف: "تهمتهم أنهم ينتمون إلى داعش. لم أترك باباً إلا وطرقته لأعرف مصير ولدي ولم تصلني سوى شائعات؛ هناك من يقول إنه معتقل في بغداد في سجون المليشيات، أو أعدم مع مجموعة كبيرة ممن اعتقلتهم المليشيات ودفنوا في مقابر جماعية".
لا توجد إحصائيات دقيقة لضحايا جرائم الإخفاء القسرية المستمرة في العراق
ولا توجد إحصائيات دقيقة لضحايا جرائم الإخفاء القسرية المستمرة في العراق، لكن العدد التقريبي لضحايا هذه الجرائم المرتكبة منذ عام 2014 وحتى اليوم بلغ أكثر من 15 ألفاً، بحسب بعض التقارير، الأمر الذي يؤكده مدير مركز بغداد لحقوق الإنسان مهند العيساوي. ويقول لـ "العربي الجديد": "هذه الجرائم مستمرة حتى الآن، وهي ظاهرة وليست حالات فردية"، مشيراً إلى أن "غالبية جرائم الإخفاء القسري ترتكب بشكل منظم". يضيف أن جرائم الاختفاء القسري المرتكبة خلال عام 2014 وبعده "تقف خلفها المليشيات المشاركة في العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش وعدد من الأجهزة الأمنية والعسكرية". ويلفت إلى أن مركز بغداد على تواصل مستمر مع السلطات العراقية كافة، "لكن لم نلمس منهم الجدية والرغبة الحقيقية في التعامل مع هذا الملف، وحتى القضاء العراقي لم يتخذ أي خطوة في سبيل ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم وكشف مصير الضحايا".
وعلى الرغم من انضمام العراق إلى الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري في عام 2010، لم تنفذ السلطات أياً من هذه الالتزامات، على حد قوله. بدوره، يقول مدير المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب، عمر الفرحان، إنه على الرغم من التفاوت في الأرقام بحسب المنظمات الدولية والمحلية، يعد العراق الأول عالمياً لناحية عدد المخفيين قسراً على يد القوات الحكومية والمليشيات المرافقة لها. يضيف في حديثه لـ "العربي الجديد": "لدينا في المركز العراقي أرقام لبعض المناطق والمحافظات التي تعرضت لهجوم من قبل المليشيات والقوات الحكومية، مثل محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى، ما أدى إلى إخفاء أكثر من 23 ألف شخص خلال سنتين فقط ولا يعلم مصيرهم على الرغم من وجود فيديوهات وصور تؤكد أن المليشيات الولائية (أبرزها منظمة بدر، عصائب أهل الحق، حركة النجباء، كتائب حزب الله، سرايا الخرساني، كتائب سيد الشهداء، كتائب الإمام علي، وجند الإمام) هي من قامت بخطفهم وإخفائهم لأسباب عدة منها الانتقام والتغيير الديموغرافي والطائفية والابتزاز المالي".
ويؤكد الفرحان أن "المركز وثق أكثر من 75 حالة إخفاء قسري لناشطين ومدنيين في ساحات التظاهر ولم يطلق سراحهم حتى الآن"، مضيفاً أن "عجز حكومة بغداد عن العمل على إطلاق سراحهم يؤكد أن قوة ونفوذ المليشيات أكبر وأقوى من الحكومة والقانون".
ويقول: "ما زالت العمليات العسكرية وسط وغرب وشمال العراق مستمرة، وبالتالي يستمر الإخفاء القسري"، مشيراً إلى أن مركزه وثّق كثيراً من الأسماء والقضايا، إلا أن الحكومة في بغداد دائماً ما تردّ على هذه القضايا بشكل مضلل ومخجل. وفي معظم الأحيان تدعي أن المخفيين لدى داعش أو أنهم من عناصر داعش. ويوضح أن نفوذ المليشيات يعيق العمل، إضافة إلى عدم إفصاح الحكومة عن مواقع السجون السرية وكشف الحقائق أمام المجتمع المحلي والدولي. يختم: "للأسف، المجتمع الدولي غير قادر أو مهتم بحل هذه القضية، التي تعدّ من القضايا المهمة والخطيرة بنظر القانون الدولي العام وحقوق الإنسان".