19 سبتمبر 2022
رفعت الجادرجي.. رمز ثقافي عراقي مختلف
في ذروة المحنة التي تجتاح الجميع، رحل في لندن، يوم 10 إبريل/ نيسان الجاري، أحد آخر رموز العراق من المثقفين المتميّزين، وترحل معه قرابة مائة سنة من التاريخ المتجدّد والإبداعي.. وتفتقد الثقافة العربية واحداً من أبرز مبدعيها ممن تألقوا في الزمن الجميل. رحل الفنان المعماري الذي وصفته المعمارية الفرنسية، سيسيليا بييري، بأنه "أحد عمالقة العراق في القرن العشرين". رحل المعماري الكبير رفعت الجادرجي (93 عاماً) الذي كان وراء تصميم نصب الجندي المجهول القديم عام 1959 في قلب ساحة الفردوس في بغداد، وتصميم نصب الحرية الذي غدا رمزاً لبغداد في ساحة التحرير. رحل المعماري والمهندس والفنان والمثقف والمفكر الذي استحق أن يكون رمزاً بجدارة، على الرغم من أنه عاش ومات مخالفاً للآخرين في فكرهِ وتجاربهِ وحداثتهِ، وقد عاش ومات مقتنعاً بما آمن به، وبقيَ يعمل من أجل نشر كتاب معروف الرصافي "الشخصّية المحمديّة"، ونجح في ذلك بعد مرور نصف قرن على تأليف الكتاب.
ولد في بغداد يوم 6 ديسمبر/ كانون الأول 1926، وهو نجل السياسي كامل الجادرجي (1897-1968) الذي كان له دور محوري في الحياة السياسية العراقية إبّان العهد الملكي، وفي تأسيس الحزب الوطني الديمقراطي المعارض. وقد اعتنى رفعت لاحقاً بتراث والده
السياسي، ونشره في عدة كتب. أكمل دراسته في مدرسة هامر سميث للحرف والفنون، البريطانية، وعاد ليعمل في مكتب استشاري للعمارة أنشأه في 1951 وتابع فيه عمله حتى 1977. تقلّد منصب رئاسة قسم المباني في مديرية الأوقاف العامة، ثم مديراً عاماً في وزارة التخطيط نهاية الخمسينيات، ورئيسا لهيئة التخطيط في وزارة الإسكان. وبقي طوال حياته يبلور أسلوباً معمارياً عرف به. اعتقل عام 1977 إثر تهمة كيدية تافهة، وحكمت عليه محكمة الثورة في 1978 بالسجن المؤبد مدى الحياة، مع مصادرة جميع أمواله، وبقي في سجن أبي غريب 20 شهراً، ثم أطلق سراحه، لتكليفه بإعادة التنظيم العمراني لبعض الأماكن في بغداد. وشرحت زوجته محنة اعتقاله في كتاب "جدار بين ظلمتين"، وسجلت تاريخ مأساته التي عاشها مسجوناً. غادر العراق في الثمانينيات نحو بيروت ثم انتقل إلى لندن، وعاد إلى بغداد عام 2009، وصدم بشدّة لهول ما رآه. وقال: "لا أصدق ما الذي جرى. لقد تحوّل كلّ شيء إلى خراب تقريباً، لقد تعرّض العراق لغزوات، ولم يستقر منذ فترات طويلة، وهذا ما ينعكس باستمرار على التفاصيل الحياتية والعمرانية".
بقي الرجل حيوياً بذاكرته على الرغم من أوجاعٍ رافقته في سنواته الأخيرة. كان مهندسًا معماريًا ومصوّرًا ومؤلفًا وناشطًا ومثقفاً ومفكراً عراقياً حقيقياً. لم يقصر نفسه على تخصّصه، بل كانت له فلسفته في الحياة، وله رؤيته المعمّقة إلى الإنسان والطبيعة، ويبتعد كثيراً عن الميتافيزيقيا، وقد لقّب "أبو العمارة العراقية الحديثة"، حيث قام بتصميم أكثر من مائة مبنى في جميع العراق، مستوحياً تجاربه المعمارية من خصائص العمارة العراقية العريقة، وقد تميّز
بذكاء وتأصيل ومزاوجة بين التقليد والاحتياجات الاجتماعية المعاصرة. كما لخّصها في فلسفته وشرحها في كتبه، وكان يردّد: منذ بداية ممارستي، اعتقدت أن من الضروري أن يخلق العراق لنفسه، عاجلاً أم آجلاً، بنية فيها خصوصيتها بطابعٍ عصري حديث، ولكنها مستوحاة من تاريخه الحضاري، وهو جزء من الأسلوب التقدّمي اليوم في العالم". وهذا يتّفق تماماً مع سياق النهج الذي آمنت به "جماعة بغداد الحديثة" التي تأسست عام 1951، وكان رفعت الجادرجي عضوًا مبكرًا فيها. وسعى إلى ترجمة نهجها الفني في الجمع بين التراث العراقي القديم والفن الهندسي المعماري الحديث، لتطوير جمالية عراقية معاصرة، والتي أثرت أيضًا على تطوير لغة بصرية عربية لاحقاً.
كانت أعماله المبكرّة راسخة في خطاب "مجموعة بغداد للفن الحديث" وإبداعها، بمن فيهم كل من الفنانين جواد سليم ومحمد غني حكمت وشاكر حسن آل سعيد. واعتمدت تصاميمه على تجريد مفاهيم وعناصر المباني التراثية وإعادة بنائها بأشكال معاصرة. وأشار منتقدوه إلى أنه كان متعاطفًا مع أهداف الجماعة، إلا أنه كان في الأساس حداثيًا في القلب، ومتجاوزاً أطر التقاليد المتوارثة. كان من أعظم أعماله نصب الجندي المجهول عام 1959، وقد كلّفه بتصميم النصب الزعيم عبد الكريم قاسم، فجاء رمزاً عراقياً بجدارة، غير أن الرئيس صدّام حسين دمّره لاحقا، واستبدله بآخر ولأسباب شخصية وسياسية. وقد وصف بأنه بنية رمزية وحديثة بسيطة. والجادرجي هو الذي صمّم نصب الحرية الشهير في بغداد عام 1961، والذي نفّذه جواد
سليم.
استمر رفعت يرسم تصميمات متنوّعة رائعة أكثر من أربعين سنة، متحكّماً في ضوء الشمس والحرارة والتهوئة والأفنية والجدران والأقواس والأرصفة، مستنداً إلى الميراث العراقي القديم. وتتلخّص تصاميمه المدمجة من الماضي الذكي في أشكال جديدة، من الديكورات الداخلية الأوروبية. نال رفعت جوائز دولية وعربية تقديراً لجهوده الفنية المعمارية والعلمية والفكرية. وفي العام 2017 خصصت جائزة تحمل اسمه للمهندسين المعماريين الشباب الذين يساهمون في إعمار ما دمّرته الحروب في العراق، وتبرع الرجل بأرشيفَيه المعماري والتاريخي إلى مركز الآغا خان للتوثيق في مكتبات معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
عرفتُ الرجل معرفة عميقة منذ أكثر من ثلاثين سنة، في لندن وهارفرد وأبو ظبي، وكتبت عنه وعن أفكاره الطريفة والغريبة، ووجدت فيه إنساناً متميزاً ومخالفاً ومتجدّد التفكير، وباحثاً يؤمن بحقائق الأشياء وصريحاً وشجاعاً في إبداء آرائه التي قد يختلف معه بعضهم، ففكرهُ قد خرج عن سرب المجاميع، وبقي يحلّق وحده غير مكترث بالآخرين، كونه يؤمن بمبادئ غير مألوفة، بل ويعتبرها بعضهم خارجة عن سياقات وتقاليد موروثة، في حين يراها هو نفسه طبيعية، وتناهض الجمود والتبعية والمساكنة. وقد فصّلت عنه رؤيته للحياة والأرض والسحر والدين والمرأة والتراث والتاريخ والبيئة والزواج والإنجاب .. إلخ، في أكثر من حوار معه.
وكان يؤمن إيماناً راسخاً بالنظام الديمقراطي. له عدة كتب، أغلبها عن العمارة وفلسفتها، وجاءت مقدمة رائعة كتبها لأحد كتب أبيه مساهمة طيبة في تاريخ الثقافة العراقية الحديثة. تزوج رفعت الجادرجي بالكاتبة بلقيس شرارة (عراقية من أصل لبناني)، وكانت رفيقة دربه، ورفضا الإنجاب، وقال: "أنا وزوجتي قرّرنا ألا ننجب أطفالاً؛ لأن البشر يخرّبون الأرض"!
بقي الرجل حيوياً بذاكرته على الرغم من أوجاعٍ رافقته في سنواته الأخيرة. كان مهندسًا معماريًا ومصوّرًا ومؤلفًا وناشطًا ومثقفاً ومفكراً عراقياً حقيقياً. لم يقصر نفسه على تخصّصه، بل كانت له فلسفته في الحياة، وله رؤيته المعمّقة إلى الإنسان والطبيعة، ويبتعد كثيراً عن الميتافيزيقيا، وقد لقّب "أبو العمارة العراقية الحديثة"، حيث قام بتصميم أكثر من مائة مبنى في جميع العراق، مستوحياً تجاربه المعمارية من خصائص العمارة العراقية العريقة، وقد تميّز
كانت أعماله المبكرّة راسخة في خطاب "مجموعة بغداد للفن الحديث" وإبداعها، بمن فيهم كل من الفنانين جواد سليم ومحمد غني حكمت وشاكر حسن آل سعيد. واعتمدت تصاميمه على تجريد مفاهيم وعناصر المباني التراثية وإعادة بنائها بأشكال معاصرة. وأشار منتقدوه إلى أنه كان متعاطفًا مع أهداف الجماعة، إلا أنه كان في الأساس حداثيًا في القلب، ومتجاوزاً أطر التقاليد المتوارثة. كان من أعظم أعماله نصب الجندي المجهول عام 1959، وقد كلّفه بتصميم النصب الزعيم عبد الكريم قاسم، فجاء رمزاً عراقياً بجدارة، غير أن الرئيس صدّام حسين دمّره لاحقا، واستبدله بآخر ولأسباب شخصية وسياسية. وقد وصف بأنه بنية رمزية وحديثة بسيطة. والجادرجي هو الذي صمّم نصب الحرية الشهير في بغداد عام 1961، والذي نفّذه جواد
استمر رفعت يرسم تصميمات متنوّعة رائعة أكثر من أربعين سنة، متحكّماً في ضوء الشمس والحرارة والتهوئة والأفنية والجدران والأقواس والأرصفة، مستنداً إلى الميراث العراقي القديم. وتتلخّص تصاميمه المدمجة من الماضي الذكي في أشكال جديدة، من الديكورات الداخلية الأوروبية. نال رفعت جوائز دولية وعربية تقديراً لجهوده الفنية المعمارية والعلمية والفكرية. وفي العام 2017 خصصت جائزة تحمل اسمه للمهندسين المعماريين الشباب الذين يساهمون في إعمار ما دمّرته الحروب في العراق، وتبرع الرجل بأرشيفَيه المعماري والتاريخي إلى مركز الآغا خان للتوثيق في مكتبات معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
عرفتُ الرجل معرفة عميقة منذ أكثر من ثلاثين سنة، في لندن وهارفرد وأبو ظبي، وكتبت عنه وعن أفكاره الطريفة والغريبة، ووجدت فيه إنساناً متميزاً ومخالفاً ومتجدّد التفكير، وباحثاً يؤمن بحقائق الأشياء وصريحاً وشجاعاً في إبداء آرائه التي قد يختلف معه بعضهم، ففكرهُ قد خرج عن سرب المجاميع، وبقي يحلّق وحده غير مكترث بالآخرين، كونه يؤمن بمبادئ غير مألوفة، بل ويعتبرها بعضهم خارجة عن سياقات وتقاليد موروثة، في حين يراها هو نفسه طبيعية، وتناهض الجمود والتبعية والمساكنة. وقد فصّلت عنه رؤيته للحياة والأرض والسحر والدين والمرأة والتراث والتاريخ والبيئة والزواج والإنجاب .. إلخ، في أكثر من حوار معه.
وكان يؤمن إيماناً راسخاً بالنظام الديمقراطي. له عدة كتب، أغلبها عن العمارة وفلسفتها، وجاءت مقدمة رائعة كتبها لأحد كتب أبيه مساهمة طيبة في تاريخ الثقافة العراقية الحديثة. تزوج رفعت الجادرجي بالكاتبة بلقيس شرارة (عراقية من أصل لبناني)، وكانت رفيقة دربه، ورفضا الإنجاب، وقال: "أنا وزوجتي قرّرنا ألا ننجب أطفالاً؛ لأن البشر يخرّبون الأرض"!