نالت حكومة هشام المشيشي الثقة في البرلمان التونسي، فجر الأربعاء، بنسبةٍ مريحة بلغت 134 صوتاً، ما اعتبره عددٌ من الأحزاب والكتل البرلمانية، انتصاراً على الرئيس قيس سعيّد، الذي حاول بطرق عدة غير مباشرة، إضعاف حظوظ المشيشي في المرور. فهل يمكن الحديث عن هزيمة للرئيس التونسي، وانتصار لمرشحه؟
لكلّ حكومة تشكلت في تونس بعد الثورة، قصّة مختلفة في حيثياتها وكواليسها عن الأخرى. حكومة هشام المشيشي ليست استثناءً في هذا السياق، بل لعل مسارها يعتبر الأغرب والأكثر إثارة مقارنة بالحكومات السبع السابقة. فرئيسها كان شخصية غير معروفة لدى الرأي العام، وأيضاً لدى النخبة السياسية. تحمّل الرجل مسؤوليات في دواوين بعض الوزارات، وفهم الدولة من داخل مؤسساتها وحلقاتها الوسطى. لكن فجأةً، التفت إليه الرئيس سعيّد، وطلب من رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ وضعه على رأس وزارة الداخلية. أبدى المشيشي انضباطاً وقدم أداءً جيداً، ما أكسبه مزيداً من ثقة الرئيس، إلى أن دقت الساعة، وتمّ تكليفه بتشكيل حكومة جديدة بعد انهيار حكومة سلفه. لم يتوقع أحدٌ أن الرجل الذي تمّ انتقاؤه بعنايةٍ، سيتخذ مسافة من الرئيس الذي أصبح بدوره غير راغبٍ فيه ويتمنى إسقاطه في البرلمان؟ كان سعيّد يتوقع أن المشيشي سيكون ساعده الأيمن والوفي له، لتعزيز نفوذه داخل مؤسسات الدولة، وأن يستعين به من أجل تحجيم دور الأحزاب وتقليص نفوذها وتقليم أظافرها. كما اعتقد أن المشيشي سيبقى بعيداً كل البعد عن خصوم الرئيس السياسيين، وفي مقدمهم حركة "النهضة" و"قلب تونس".
لم يكن متوقعاً أن يتخذ المشيشي، الذي تمّ انتقاؤه بعنايةٍ، مسافة من الرئيس الذي أصبح بدوره غير راغبٍ فيه
المشيشي شخصية مستقلة فعلاً، لم يفكر يوماً في أن يقترب من أيّ حزب أو تيار سياسي. لكنه اصطدم بإصرار القصر الرئاسي على التوسع في تعيين أعضاء الفريق الحكومي. لم يعترض على ذلك بداية الأمر، لكنه في لحظة ما شعر بكونه قد أصبح مخيّراً بين أمرين: الاستسلام لرغبة القصر، ما سيجعل منه وزيراً أول ضعيفاً، كما كانت الحال في عهد الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، أو أن يتمسك بالصلاحيات التي حدّدها الدستور، فيكون بذلك رئيساً حقيقياً للحكومة يتمتع بكامل الصلاحيات، وهو الطريق الذي اختاره في النهاية، وقرّر أن يسلكه، ويسير فيه إلى الآخر.
غضب سعيّد كثيراً، فقام بخطوة غير مدروسة حين اجتمع برؤساء الأحزاب الأربعة التي شكّلت حكومة الفخفاخ، ومن بينها "النهضة"، وذلك ليلة انعقاد جلسة البرلمان. هذا الاجتماع المفاجئ الذي قيل عنه الكثير، والذي استمر لأكثر من ثلاث ساعات، تخللته أحياناً فترة من الصمت الجماعي. التفت رئيس الدولة إلى ضيوفه، خصوصاً رئيس البرلمان و"النهضة" راشد الغنوشي، وأكد على أنه لا ينوي حلّ البرلمان وفق ما يسمح له به الدستور في حال عدم التصويت على حكومة المشيشي. كأنه بذلك يطمئن الأحزاب التي تخشى الذهاب إلى انتخابات مبكرة، وما عليها في المقابل سوى التخلي عن إنقاذ المشيشي.
وما زاد في إضفاء الغموض على هذا السيناريو، استعداد رئيس الجمهورية لتفعيل المادة 100 من الدستور التي تتعلق بحالة حدوث شغور على رأس الحكومة، وذلك من خلال إبعاد الفخفاخ الذي أحيل ملفه المتعلق بتضارب المصالح على القضاء، والإبقاء على حكومته المستقيلة مع تعيين أحد وزرائها ليتولى رئاستها. فاجأ سعيّد الجميع بهذا الاقتراح الغريب والمثير للجدل، الذي كشف عن مدى حرصه على تكييف بعض الجوانب الدستورية من أجل الاحتفاظ بإدارته للشأن الحكومي وكل مكونات السلطة التنفيذية، وهو ما اعتبره بعض خصومه محاولة منه لإحداث "انقلاب ناعم". غير أن النتيجة جاءت معاكسة للنوايا الرئاسية، وهو ما عبّر عنه النائب في البرلمان، الصافي سعيد، بطريقته حين قال إن رئيس الدولة "أراد تعيين رئيس حكومة لإسقاط الأحزاب، فإذا به يستنجد بالأحزاب لإسقاط المشيشي". بل إن النتيجة أدّت إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث وفر سعيّد فرصة للأحزاب المخاصمة له، والتي استفادت من ذلك واختطفت رئيس الحكومة المُكلف من يديه، وقدمت له الدعم السياسي الذي يحتاجه.
حاول سعيّد طمأنة الأحزاب التي تخشى الذهاب إلى انتخابات مبكرة، مقابل تخليها عن إنقاذ المشيشي
ازدادت مخاوف المشيشي من ساكن قرطاج الذي عيّنه في منصبه الجديد، وبدل أن يفكر في الانسحاب والاستقالة مثلما "نصحه" البعض، أظهر قدراً عالياً من الثقة في النفس، وقرّر أن يعيد النظر في خطته، ويتجه مباشرة نحو الأحزاب المستعدة لدعمه في البرلمان، وهو ما حصل فعلياً. في ضوء هذه النتيجة، تحاول الأحزاب التي على خصومة مع قيس سعيّد حشره في زاوية ضيقة ودفعه نحو الاعتراف بالهزيمة. قال راشد الغنوشي على إثر انتهاء عملية التصويت إن "البرلمان ممثل الشعب وصاحب السيادة ومصدر السلطات"، وفي ذلك رسالة مباشرة إلى رئيس الجمهورية الذي يرفع شعار "الشعب يريد". كما طالبه رئيس "قلب تونس"، نبيل القروي، بـ"الاعتذار من الشعب التونسي واحترام الدستور وعدم التدخل في صلاحيات رئيس الحكومة". هذه اللغة الانتصارية للأحزاب، لن تدفع بقيس سعيّد إلى الاستسلام والقبول بالأمر الواقع، وإنما قد تدفعه نحو ردود فعل من شأنها أن تضفي مزيداً من التعقيد على المشهد السياسي. فعلاقة ساكن قرطاج برئيس الحكومة قد تصبح أكثر انكماشاً، وقد يعود الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية كما كان من قبل في عهد الباجي قايد السبسي، في ظلّ حكومة يوسف الشاهد مع اختلاف الأشخاص والسياقات والخبرات. أم ربما يعود الرشد للجميع في ظلّ المخاطر الاقتصادية والاجتماعية التي تهدد البلاد والعباد.