في الطعوم تعيش أماكن ووجوه وقصص، يختبئ زمن وتفاصيل. في الطعوم توجد ألوان ودروب وأصوات بعيدة، وتنتشر انطباعات سريعة الزوال ولكنها لا تزول. للطعم الواحد امتدادات شخصية خفية.
الإجاصة الناضجة لا تخبّئ في انسيابها الرزين مجرّد مادة بيضاء هشة تمنحك ذاتها حين تشاء، لتعطيك طعمها المميز، بل تخبّئ أيضاً صورة الشجرة التي فاضت عن قسمة الميراث فبقيت ملكية جماعية تجمع أطفال العائلات. صورة شجرة كبيرة بجذع خشن مائل إلى جهة غروب الشمس، وبأوراق سميكة متعبة مشققة الحواف ذات لون أخضر غامق، وثمار تتخلى ببطء، تحت إصرار الصيف، عن قسوتها الحجرية لتتحوّل إلى خزّان ليّن من طعم فريد لا تجيد صناعته شجرة أخرى.
طعم الإجاص يفتح في لحظة واحدة عالماً من الصور. الرجل الذي يتجه إلى الحقول ببارودة صيد وقبعة قش، المرأة التي تسرع صوب النبع وقد علّقت طرف فستانها تحت الزنار، كي لا يعيق خطوتها الواسعة، الدجاجة الحمراء الكبيرة التي تتهرب من محاولات المرأة العجوز سوقها إلى القن، الأطفال الذين يفقدون صبرهم من انتظار نضج الإجاص، فيقطفونه فجاً ويحاولون تليين قسوته بالحجارة. الإجاصة في كل مكان تمتلك القدرة على إعادتك في الزمن، وسوف تجد نفسك مأسوراً لعالم قديم متمكن وجميل. طعم الإجاص يحتكر له مكاناً خالداً في داخلك ليس كطعم، بل كذكريات تغذيك بمتعة البدايات وبشوق غامض إلى عالم مضى ولكنك تخاله قادماً ووشيكاً.
كل ثمار الخوخ السوداء الريانة، لها منبع واحد. كل ثمار الخوخ تعود في أصلها إلى ذلك البستان المجاور للنهر. وكل شجرة خوخ لا تنحني فروعها تحت ثقل الثمار، على شكل أنصاف أقواس باتجاه الأرض، إنما تخالف وتنحرف عن صورة الخوخ الصحيحة.
لا يمكن لطعم الخوخ الأسود العطر أن لا يستحضر إلى الذاكرة نهراً صغيراً، ورجلاً مسناً قاسي الملامح محني الظهر، يلاحقنا بعصاه وبكلامه البذيء وتهديداته، كي يبعدنا عن قطف الخوخ من بستانه الصغير ذاك. لا يمكن لطعم الخوخ الأسود أن يكون بريئاً من هذه العوالق التي تعطيه ما يجعله أكثر من طعم. كيف لطعم الخوخ الأسود أن يكتمل ما لم يحرر في الذهن صورة أطفال يناديهم في الصيف شوق الخوخ فيتجهون راكضين إلى ذاك البستان وينكفئون راكضين تلاحقهم التهديدات والشتائم.
أما الأصل الأول لثمرة الكمثرى الخمرية ذات الزغب، فهي شجيرة ذات أغصان ضاربة إلى الحمرة وأوراق خضراء باهتة مطوية على نفسها كقارب صغير، تنتصب قريباً من النبع بكبرياء من يدرك قيمة نفسه. تلك الشجيرة جعلتني أدرك أن في العالم طعماً ونكهة على هذا القدر من التميّز والأسر. لم يكن لمثل هذه الشجرة وجود في محيطنا، ولا أدري من أين جلب عمي هذه الغرسة التي لا مثيل لها في المنطقة، على قدر معرفة ذلك الطفل. في الزمن التالي صارت مهمة ثمرة الكمثرى أينما كانت، أن تعيدني إلى تلك البقعة من الأرض، وأن تُطلق في خيالي صوراً لا تهدأ مثل رف من العصافير اللاهية. طعم هذه الثمرة الساحرة الفريدة بلونها الخمري المتدرج، وبزغبها الناعم وامتلائها، وبالأخدود اللطيف المتشكل من التقاء فلقتيها، وبنواتها القاسية ذات الحفر والتلافيف، يحرر سيلاً من الانطباعات الشخصية. لكل شخص طعمه الخاص من الكمثرى.
كيف يمكن لطعم العنب الأصفر أن لا يعيدك إلى التخوم التي ترسمها أشجار الحور العالية المحروسة جذوعها بشجيرات الآس؟ ما قيمة طعم العنب الأصفر ما لم يفتح لك طريقاً إلى صوت الخرير المتراخي للساقية المجاورة؟ ما قيمة الطعم مجرداً من الذكريات؟ كل عنب أصفر لا ينضج عالياً على أشجار الحور هو عنب ناقص. وكل دالية عنب لا تؤاخي شجرة حور عالية هي دالية ناقصة. تماماً كما أن جمال الحور لا يكتمل إلا حين تتكشّف بين أوراقه عناقيد عنب صفراء لامعة. التجاور بين العنب والحور يجعل طعم العنب نافذة على عالم من الأسماء والرسوم المحفورة على الحور. أسماء يابسة على جذوع الحور، لا تريد سوى أن تؤكّد حضورها الحيادي، أو حروف لاتينية عاشقة موزعة على أطراف أسهم تخترق قلوباً، أو تشكيلات مبتكرة تجمع حرفين لاتينيين عاشقين معاً دون وساطات.
على أن بين الطعوم ممرّات خفية لا تبدو إلا للعين التي يفتحها الحرمان. سوف تكتشف بتأثير الافتقاد أن طعم الخيار حين يذوي يقلّد طعم التين الأخضر، وأن طعم الزيتون حين يجفّ في الصحن يذهب باتجاه طعم البطم الأزرق، وأن نكهة العنب عند نضوجه الأول، أو حين يحاول أن يثمر من جديد في الموسم نفسه، يقلد نكهة الجارنك.
وفي كل حال، تبقى الطعوم نوافذ ومفاتيح ودروب سالكة، وتبقى حافلة بعوالق تعطي للطعوم المعنى والعمق والقيمة التي من دونها تبقى مجرّد طعوم.
* كاتب سوري