حيث ليس ثمّة خريطة

03 ابريل 2018
(خوان مانويل روكا، تصوير: كارلوس ماريو ليما)
+ الخط -

قصيدَةٌ اِجْتاحَها الرُّومانُ

الرُّومانُ كانوا خُبثاء
ملؤوا أوروبا بالخَرائبِ
المُتآمِرةِ معَ الزَّمن.
كان الآتي يثيرُ اهتمامهم
الآثارُ أكثرُ مِنْ مَوَاطِئِ الأقدامِ
الرُّومانُ، يا كساندرا، كانوا ماهِرين
لم يضعوا قنَاةَ المياهِ لِشَقُّوبِيَةَ
كقناةٍ لِلماءِ والضوْءِ.
بل فكروا فيها كأثَرٍ،
كَمَاضٍ مُذْهِلٍ.
زرعوا في أوروبا مبَانِيَ صَدِئَةً،
تماثيلَ عَديمَةَ الرُّؤُوسِ
اِبْتلعَها مجدُ روما.
لم يَبْنوا الكُولِيسيومَ
لتفْتَرِسَ النُّمورُ
على هَواها المسيحيِّين
الَّذِين لا يُثِيرون الشَّهيَّةَ
ولا لِيَرَوْا أنْصار سبارتاكوس
مُخْتَرَقينَ مِثْلَ فواصِلَ تمثيلِيةٍ من الجَحيمِ
فكَّروا في خَرَائِبِهِ، خَرَائب مُتناسِبَة
فِي الظِّلِّ المَنْهُوشِ للشّمس المُحْتَضِرَةِ،
صَدِيقِي دِينُو كَامْبَانَا
كان يمكنُ أن يُهَاجمَ بِشراسةٍ
أحد آلِهَتِهِ المرمَرِيَّةِ.
فالرومانُ يَحْملُونَ عَلَى التَّفكيرِ كَثِيراً،
مثلاً،
حصانٌ برُونزِيٌّ
في السَّاحةِ البَيْضاءِ،
أثناءَ تَرْميمِهِ
عِندَ الإطْلالِ عَلى فَمِهِ المُنفَرِجِ
عَثَرُوا فِي بطنهِ
على هياكلَ عَظْمِيَّةٍ لِحمَاماتٍ
مثل حُبِّكِ
الذي يتحوَّلُ إلى خَرائبَ
كُلَّما حاولتُ أن أعيدَ بناءَهُ أكثر.
فالزَّمنُ رُومَانِيٌّ

■ ■ ■


أغنية فلسطين

رأيتُ زهرةً تشبِهُ منقارَ الطوقان،
رأيتُ طفلاً يعزف الكمان في الحديقة،
رأيت الريح تعبُرُ متسربلة بأشجار الجوز
لكني اليوم لا أستطيع أن أتحدث
عن شيء آخر سوى زهرة دم في بيروت،
مختلفة عن طفل بيروت بلا وجهٍ،
مختلفة عن الريح المتسربلة بالانتحابات.
في كل صمتٍ ثمَّة فلسطينيٌّ مُلثّم.
الطريق إلى بيتي يغدو طويلاً
لأنني إذ أمشي باتجاههِ
أتذكر أن مركز ذاتي في فلسطين.
وإذا قال لي أحدٌ ليس ثمَّةَ فلسطين،
حينئذ مركزُ ذاتي سيسقيه العالم،
هو هنالك، حيث ليس ثمَّةَ خريطة، في الحلم سيكونُ.

■ ■ ■


زجاجة غريق

في الغرفة الصغيرة التي أعيش فيها
مثل يونس في بطن الحوت،
أفكّر: قد تكون القصائد مجرّد
رسائل مبعوثةٍ مِنْ قبلَ غريق،
زجاجات بصرخات مكتوبة بشكل بئيس
والتي ربما تذهب من بحر الصمت
إلى شواطئ النسيان.
لكن ها هنا أرمي زجاجة وأخرى،
والأخيرة مسكونة بمخاوفي.
في الغرفة الصغيرة التي أعيش فيها
مثل يونس في بطن الحوت،
تتبقى بضع زجاجات من حادث غرق.

■ ■ ■


منفيون

يقطعون مسالك القطارات
التي في محطاتها البيضاء
يتمُّ السَّفرُ إلى النسيان.
رجال بلفتات من يعرف
الحدود بين الهواء والسجن
يتحدثون بلغات غريبة
عن ضوء، وعن ريح جديدة.

■ ■ ■


برجُ الجَدْي

ديسمبر والكحول الحمراء
لم يجلبوا إلى نافذتي زغب النسيان.
الآن يؤجّجون فيّ
رغبة الإقامة في الأراضي
البيضاء والغبية للأبله
رغبة أن أصير شحاذاً في نيبال
مخترق الخرز في غواتيمالا القديمة
رغبة في الاستلقاء ما بين العشب.
أفكّر في أفضل الرجال في بلادي
أولئك الذين راهنوا برؤوسهم
على الحدود وفي تخوم الهاوية
في هذه الساعة حيث تكون السجون مأهولة
بشكل أفضل من قاعات الرقص النظيفة.
الذباب الذي يطنُّ حول حلمي
أو على الورق الأبيض
حيث يرسم خطوطاً غامضة
لا يدعون إلى مناظر طبيعية هادئة.
ديسمبر والكحول الحمراء
لم يجلبوا إلى نافذتي زغب النسيان.

■ ■ ■


آخرُ غُرْزَةٍ في الماء

عبثٌ أنْ تَرْتِقَ الماء،
أنْ تضْفِرَ جدائل المطر،
أنْ تطليَ بحيرات من الأصوات
ولوتس من صمت.
نكتب كلمة حنفية،
نتركها مفتوحة
ونحلمُ،
يا شرذمة الأغِرَّاءِ
أن تصيرَ نهراً.

■ ■ ■


أيادي أورلاك
(تأملات كونشيرتو للبيانو)

فيلم قديم من السينما السوداء يحكي قصّة أورلاك.
بعد إعدام، ستيفن أورلاك، رامي سكاكين بالسيرك وقاتل،
تُبْتَرُ يداهُ وتُزرعان لعازف بيانو
فقد اليدين في حادث قطار انحرف عن مساره.
اليدان ترفضان الإذعان للجسد الجديد،
تقرّران التحرّك وفق إرادتهما واستعادة غريزتهما الإجرامية.
بدلاً من الانكباب على لوحة مفاتيح البيانو، تبحثان عن أعناق لكبسها.
عازف البيانو هذه الليلة قد تلقى بدون شك عقد إعارة
يدي أورلاك. استمع كيفَ تمارسُ القتلَ موسيقى باخ.

■ ■ ■


مونولوج الراقصة

الآن أنا زهرة.
وبعدئذ شلال.
طائر سرّي يملي التحليق
على قدمي الهشتين، فوق المنصة.
لو هنالك تحت نعلي
عالم ثابت، فأنا أجْهلُهُ.
هل سيفهمونني لو قلتُ لهم
إن قطرات العرق أغلى
بالنسبة لي، من القلائد؟
الآن أنا نار.
ولمَّا أعود إلى ذاتي،
لمَّا تتوقفُ الموسيقى
وأرى الآخرين، الذين هم مرآتي،
أتهيَّبُ من معرفة أنني كنت زهرة،
كنت شلالاً، وكنت ناراً.

■ ■ ■


جدران الليل

متجولاً في زوايا الليل
يأتي صوتي في دورية
عبر وطن المرايا المعتم.
بلادي سجنٌ واسع،
في برجه العالي ألف طائر
الإطلال عبر النافذة يشفي القلب.
بعد ما زال ينتشرُ صوتي القديم
لعمر الشذا،
ينتشر جنب بحر مصوِّتِ من مزارع البن،
عبير أشجار منابت القرام
وتصعد حتى السماء.
صوتي يدوي في مروج الصدر
لما يُموِّهُ صيَّادُ الأشراك
فم الخزان
أو يرسمُ نفقاً على جدران خلية.
ميتمٌ هائلٌ، بلادي،
يَهرُب من شركٍ إلى شركٍ، من جدار إلى جدار،
يأتي صوتي من الدورية
عبر وطن المرايا المعتم.


* ولد Juan Manuel Roca في ميديين بكولومبيا عام 1946. من بين ما صدر له في الشعر: "ذاكرة الماء" (1973)، و"كتاب الفروسية" (1979)، و"بلدٌ سريٌّ" (1987)، و"صيدلية الملاك" (1995)، و"شِجارُ الحالم" (2002)، و"فرضية لا أحد" (2005)، و"وصايا" (2008)، و"الوجوه الثلاثة للقمر" (الصورة، 2013). يُكرّم الشاعر هذه الأيام في الدورة السادسة لـ"ملتقى أسفي الدولي الشعر" في المغرب، التي تستمر حتى الثامن من الشهر الجاري.

** ترجمة عن الإسبانية: خالد الريسوني

المساهمون