ما من أحد يعرف

13 ديسمبر 2015
آني كوركجيان/ لبنان
+ الخط -

ثمّة أعمال لا تبعث على الغمّ وحسب، بل إنها تنشّط وتحفّز على البلادة الغاوية في أعماقنا؛ تلك البهيمة الملغّزة والمنتظرة. يتقدّم الإهمال على الإتقان، وتستفحل اللامبالاة، فيسودُ الضجر الآثم. هكذا نصل إلى أرض المجاملات التي لا تُبقي وراءها سوى الشكوى النائمة التي هي خليط من التبرير المزيّف والندم الفقير.

*
ما من أحد يعرف ماذا دار في الاجتماع الأخير للساسة، أمراء الحروب، هنا قرب الميناء القديم. لا شكّ أنهم توصّلوا إلى شيء ما، شيء مجهول وناءٍ وقويّ. يمكنني العثور عليه مصادفة، فأكون محظوظاً حينما أجلس جنب سائق سيارة أجرة، ثم فجأة يبدأ الرجل يلعن البلاد كلّها ويكفر بكل شيء، من الغبار الناعم حتى أعالي السماوات! هكذا لا يعينني أي شيء من القرارات المفزعة سوى على التضرّع الصامت أن أصل إلى البيت بسلام لا غير.

*
في الليل يقلّ عدد الأحياء. إنهم أقرب إلى الموتى، فلا يكون لوجودهم خطر على أي كان. في الليل تتزاحم الأحلام والكوابيس ولا يؤذي أحدها الآخر. الليل أقرب إلى السلام منه إلى الحرب، أقرب إلى الوداع منه إلى اللقاء. إنه تعبٌ يشبه جمال الغروب؛ تلك الصفة التي تبقى حميمة رغم تكرارها المستمر. أعمال الليل تمهّد للنهار كي يكون بلا عبء، لكن النهار بداية الجوع، بداية الشقاء، بداية الخزي!

*
إذا جمعنا شوارع بيروت كلها إلى بعضها نحصل على متاهةٍ مُحكمة. المشي العادي والبطيء لا ينسجم مع الضجيج الشديد، مع عويل السيارات المسرعة المهدّدة التي تكاد لا تنظر إلى أحد ولا تأبه لشيء. اللهاث الخائف يمحو الحيّز المتاح للكلام، وإذ يتضاءل الأخير، نكون في حالة أقرب إلى الخصام منها إلى الوئام، أقرب إلى الخوف منها إلى الأمان، أقرب إلى الهرب منها إلى الإقامة. ربما يكمن العيب في الجغرافيا، في الضيق الخانق، وإلا لماذا تبقى المدينة متاهة لاهثة، مهيمنة وضاغطة!؟

*
النادلات أمّهات سخيّات، أمّهات وعشيقات في وقت واحد. هنّ للوحيدين ملاذ مرفَّه، وللمطرودين حضن.

لا نعرف ماذا يفعلن في بيوتهن، إن كانت لهنّ بيوت، لكن حركاتهن الخفيفة وسط ضوء الممرّات وتنقّلهن الليّن من طاولة إلى أخرى، رافعات الأطباق أو جالبات الكؤوس، ومشيهن شبه الرياضي، كل ذلك يبدو كما لو كانت الحانات بيوتهن، حيث السخاء يطفو من خلال ابتسامات لا تنطفئ. قد يكون كل هذا هذا غير مُهدىً إلى أحد، قد يكون قناعاً مرحاً لتعبٍ خفيّ، من يدري، قد يكون ملك الجميع.

*
ما من عمل حرّ أبداً، كي لا نخدع أنفسنا كما اعتدنا أن نفعل. قد ينفع الكسل هنا، إذا ما أُضيفَ إليه حسُّ مراقبة الأشياء: ضوء نافذة مفتوحة في آخر الليل، صوت الآذان الذي لا يوقظ أحداً ولم يوقظ أحداً من قبل، تذكّر الشتائم المقذعة ليائسين بلا أي عون!

*
سؤالٌ ليليّ ساخن عقب نهارٍ فاتر وطويل: لماذا تبدو الشابات، مستعجلات، مكتملات وفي غير أعمارهنّ في آن واحد؟

إنهن متأرجحات بين طفولة لا تُستعاد ونضج مقبل. مع ذلك، يضفي التأرجحُ عليهنّ إهابَ خصلة غير زمنية. خصلة تبديهنّ غير عابئات وغير محبوسات. هنا ربما يكمن سرّ تفوقهنّ.


اقرأ أيضاً: كما لو أنني لا أستحقّ الصباح

المساهمون