الليبرالية العربية في طريق عكسي

07 يوليو 2016
(أ. ف. ب)
+ الخط -

لقد كشف الحراك العربي وما تلاه من موجات للثورة المضادة عن إشكالية عميقة للفكر الليبرالي في العالم العربي؛ حيث شارك جزء مهم من التيارات الليبرالية في الحراك السياسي لسنة 2011، لكنهم سرعان ما تحولوا من دعاة للتغيير والحرية إلى رعاة للثورات المضادة من خلال دعم الأنظمة السابقة والدفاع عنها، ثم مواجهة شركاء الثورة/ خاصة مع استئثار تيار الإسلام السياسي بزمام السلطة في الانتخابات التي همت المرحلة الانتقالية بالعديد من الدول العربية. الأمر الذي يستدعي فهم الظاهرة الليبرالية في المجتمعات العربية والغوص في حيثيات مساندتها لجيوب مقاومة التغيير في شكل تطرف إيديولوجي يعادي التيارات الأخرى، وخاصة المنتمية للإسلام السياسي.

تعبّر الليبرالية عن التحرر التام من كل أنواع الإكراه الخارجي، سواء كان دولة أم جماعة أم فرداً، ثم التصرف وفق ما يمليه قانون النفس ورغباتها، والانطلاق والانفلات نحو الحريات بكل صورها: مادية، سياسية، نفسية، ميتافيزيقية (عَقَدِيّة).

يكمن جوهر الليبرالية في التركيز على أهمية الفرد، وضرورة تحرره من كل أنواع السيطرة والاستبداد؛ سواء تسلط الدولة (الاستبداد السياسي)، وتسلط الجماعة (الاستبداد الاجتماعي). ومما تجدر الإشارة إليه، أن الليبرالية كنظرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع لم تتبلور على يد مفكر واحد، بل أسهم عدة مفكرين في إعطائها شكلها الأساسي.

ففي الجانب السياسي يعتبر جون لوك (1632-1704)، أبرز إسهام. وفي الجانب الاقتصادي، آدم سميث (1723-1790)، وكذلك كان لكل من جان جاك روسو (1712-1778)، وجون ستيوارت مل (1806-1873) إسهامات واضحة في تفسير الفكر الليبرالي والتنظير له.

وتبنى الليبرالية على قضية الإنسان عامة، لذلك كانت للعديد من المذاهب الإنسانية ارتباطات فكرية بالظاهرة الليبرالية، كالعلمانية التي تهدف إلى فصل الدين عن السياسة، كما تعني فصل الدين عن النشاط البشري بعامة، وعلى مثل هذا المبدأ يقوم المذهب الليبرالي في كافة المجالات: السياسية، والاقتصادية، والفكرية، بل لا تكون الدولة ليبرالية إلا حيث تكون العلمانية، والعقلانية التي تعني الاستغناء عن كل مصدر في الوصول إلى الحقيقة، إلا عن العقل الإنساني، وإخضاع كل شيء لحكم العقل، لإثباته أو نفيه، أو معرفة خصائصه ومنافعه، والعقل المحكّم هنا هو عقل الإنسان.

هكذا، تقوم الليبرالية على مبدأ أن العقل الإنساني بلغ من النضج قدراً يؤهله أن يرعى مصالحه ونشاطاته الدنيوية، دون وصاية خارجية، ثم الإنسانية التي بالدفاع عن حرية الفرد، والثقة بطبيعة الإنسان، وكذلك النفعية التي تجعل من نفع الفرد والمجتمع مقياسا للسلوك، وأن الخير الأسمى هو تحقيق السعادة لأكبر عدد من الناس.

وفي المجمل، فالليبرالية هي مذهب فكري يركز على الحرية الفردية، ويرى وجوب احترام استقلال الأفراد، ويعتقد أن الوظيفة الأساسية للدولة هي حماية حريات المواطنين، مثل حرية التفكير، والتعبير، والملكية الخاصة، والحرية الشخصية وغيرها. ولهذا يسعى هذا المذهب إلى وضع القيود على السلطة، وتقليل دورها، وإبعاد الحكومة عن السوق، وتوسيع الحريات المدنية. ويمكن تصنيف الليبرالية إلى ليبرالية موضوعاتية، حيث نجد ليبرالية سياسية، اقتصادية، مجتمعية وثقافية.

على هذا النحو، تتجلى الليبرالية السياسية في وجود قيم ديمقراطية تخص تداول السلطة، الفصل بين السلطات، المواطنة، التعددية والتعاقد السياسي، احترام الحقوق الأساسية والحريات العامة، سيادة القانون، الإنصاف والمساواة.

بينما تكمن الليبرالية الاقتصادية في مفهوم الرأسمالية، حيث يعتبر السوق هو الضابط والرابط في الدائرة الاقتصادية من خلال الملكية الخاصة وتشجيع القطاع الخاص والسوق الحرة، حرية تبادل السلع، كما تتجلى في إعلاء قيمة الفرد، من خلال إيمان الليبرالية بأن الإنسان كائن عقلاني، وبالتالي قادر على تحديد طرق اختياراته وفق اعتبارات رشيدة. وعليه، فتحدد قيمة السلع والخدمات طريق الاختيارات غير المقيدة للأفراد، كقوى السوق من خلال العرض والطلب.

على المنوال ذاته، يعرف المجتمع الليبرالي كمجتمع يسمح للأفراد بالحصول على حاجاتهم الأساسية كالأمن، التعليم، الصحة والنقل. فالمجتمع الليبرالي هو المجتمع الذي لا يفرض قيوداً على حرية الأفراد، بل هو المجتمع الذي يسمح لإرادة الأفراد في الإفصاح عن مكنونها والانطلاق نحو موضوعاتها دون قيود خارجية تعيق انطلاق الفرد الحر في التعبير عن ماهيته. في حين ترتكز الليبرالية الثقافية على الضمير والواجب، وحرية المعتقد، فالفرد متحضر، لذا يمنعه ضميره من إيذاء الآخرين دون أي تدخل من الدولة في وضع قواعد للآداب والأخلاقيات.

لقد كشفت السنوات الماضية عن تحول كبير لليبرالية في العالم العربي، فقد صارت محرضة على الإقصاء والعنصرية السياسية، خصوصاً في مواجهة التيارات ذات الخلفية الدينية، فنجد أن مجموعة من الوجوه الليبرالية تدعو للتعددية السياسية وتستثني منها آخرين، بل تؤيد اعتقالهم ومحاصرتهم؛ ما يعادي الفكرة الديمقراطية خاصة الناشئة منها، كما هو الحال في العالم العربي.

بذلك، تتمثل تفسير أزمة الليبرالية في العالم العربي في علاقتها مع الإسلام واتخاذ الليبراليين عموماً مواقف عدائية لدور الدين الاجتماعي والسياسي بدلاً من تعزيز فكرة الإصلاح الديني، لتكون مقدمة لبناء معادلة سليمة تزيل إشكالية التناقض بين الدين والحرية والرفاه الاجتماعي. الأمر الذي يؤدي إلى انتشار صورة نمطية عن الليبراليين العرب تتجلى في تبعيتهم للغرب ومحاربتهم للأخلاق، ما يزيد من الحواجز بينهم وبين الفئات المختلفة للمجتمع.

يعطي الراهن العربي فرصة للنخب الليبرالية العربية لإقامة تيار ليبرالي قوامه قيم المجتمع الحر ونبذ التسلط، فمستقبل السياسة العربية رهين بوجود مؤسسة الديمقراطية القائمة على الحرية، العدالة والكرامة، والقابلة للتعايش بين الأفكار، مهما اختلفت أشكالها سواء كانت ديمقراطية تمثيلية، مباشرة أو تشاركية. وبذلك، صارت السياسة تفاعلاً بين سلطة ذات قدرة على الإدارة والتدبير وشعب صاحب إرادة وصدق التعبير.

وختاماً، إن الأساس الإيديولوجي لم يعد المؤثر في بناء أحزاب أو حركات سياسية، بل المعرفة هي التي تقود اليوم. ونجد مثلاً أن إنشاء التنظيمات والأحزاب في دول ديمقراطية ومتقدمة أصبح يبنى على قضية مركزية تهم مجموعة ضغط يحاول أن يدافع عنها بإنشاء حزب أو حركة سياسية، كحالة حزب الخضر في ألمانيا، حزب الإيكولوجيين بفرنسا والحزب الديمقراطي الجديد بكندا.

ففي غمار التسابق العلمي بين الدول، ومع غزارة معلوماتية متوفرة، ننتقل من المرحلة الأيديولوجية إلى المعرفية، فالشباب، في عصرنا، بما يملكه من حس نقدي وملكات تحليلية، قادر على رسم ملامح فردوس مجتمعي، يحلم به، ويعمل على تحقيقه، بعيداً عن وعود جنة الرأسمالية أو الاشتراكية التي تؤدي به إلى الانحياز الفكري وتنسيه أهمية الإنجاز العملي.

(المغرب)




المساهمون