"من الفرات إلى النيل"

06 اغسطس 2015
المسلسل المصري حارة اليهود (مواقع التواصل)
+ الخط -
يستطيع الشاعر السوري "محمد الماغوط" في مسرحيته الشهيرة "ضيعة تشرين"، أن يشرح مفهوم الانتصار والهزيمة في الحروب التي تخوضها "الأنظمة الشمولية"، التي تحكم منطقتنا، ففي المشهد الذي يأتي فيه أهل القرية وقد خسروا الحرب ضد "الحرامي الذي سرق حقل "نايف"، ويتهكّمون على المختار بسؤال اتهامي عن سبب إقحامهم في حرب غير متكافئة، ما أدّى لهزيمتهم، فيجيب المختار "هي مو هزيمة هي فكشة أو نكسة"، ثم يهمس الحارس بأذن المختار، ليقول المختار على الملأ: "تفضلوا طلعنا منتصرين وما لنا خبر.. كان هدف الحرامي يشيلني من المخترة وما قدر.. يعني نحنا انتصرنا"، فيكون النصر المؤزر ببقاء الحاكم المعظّم.


وكان للدراما التلفزيونية الممثلة لفكر "القائد"، اليد الطولى في إيجاد معادلات العدو والصديق، من خلال المسلسلات والأفلام التي يعمل عليها هذا النظام الشمولي، فلا دراما خارج السياق السياسي للمعركة التي يعّد لها، وعلى الجميع أن يكونوا على أهبة الاستعداد، سواء بالتقشف، أو بالصبر، لأن "العدو المتربص" والذي تدعمه "القوى الإمبريالية" هو من يفرض حالة الفقر، وليس الفساد!

لقد كان لدى التلفزيون السوري -بقناته الوحيدة في الثمانينيات والتسعينيات، وقبل ظهور الإعلام الفضائي- فيلم تلفزيوني لكل مناسبة "وطنية"، عن مآثر هذه المناسبة، ولا بدّ أن يكون العدو الصهيوني هو العمود الفقري بطريقة أو أخرى لهذا الفيلم؛ فالمناسبات الوطنية لها نكهة الانتصارات، من خلال المهرجانات الخطابية التي تتحدث عن "قلعة الصمود والتصدي" للعدوان، والمؤامرات، لتنهل الدراما منها ما تيسر، في سبيل صناعة مسلسل أو فيلم تلفزيوني أو سينمائي، يحاكي خطاب "القائد الملهم"، أو يشرح "المرحلة الحرجة للصراع العربي – الإسرائيلي المتأزم"، والهدف هو تحرير فلسطين، والإرادة الشعبية، من مخلفات "الإقطاع والبرجوازية" وكلاء العدو في البلد.

استطاع الخطاب السياسي لهذه الأنظمة إيجاد انزياحات لغوية خاصة به لتحسين طعم الهزيمة، بتسميتها مرة بـ"النكبة" التي مُني بها العرب في حرب فلسطين عام 1948، وتسمية الحرب التي كسرت كل أمل في إعادة فلسطين بـ"النكسة"، هذه الحرب التي احتلت من خلالها إسرائيل الأجزاء المتبقية من فلسطين، وأجزاء من دول الجوار، إلا أنها مجرد انتكاسة للجيوش العربية، ولم تكن هزيمة في أدبيات الأنظمة الشمولية!

مع بداية ثورات الربيع العربي، التي انطلقت من تونس إلى سورية، مروراً بمصر وليبيا، بدأ الخطاب السياسي يجد لنفسه انزياحات جديدة للعودة إلى الوراء، والحديث عن عدو صهيوني يريد تدمير البلدان، بمساعدة عملاء، كما يحلو لهم وصف هؤلاء المقهورين، الذين خرجوا يريدون إسقاط النظام الشمولي، بغية إحلال نظام ديمقراطي مكانه، لتبدأ الدراما العربية بمخالفة الخطاب السياسي -طبعا بإيعاز من هذه الأنظمة- الذي يسوّق لها على أنها مقاومة وممانعة للسياسات الأميركية والإسرائيلية، من خلال العمل على مسلسلات تصوّر هذا الإنسان اليهودي، الذي كان يعيش في المجتمعات العربية، بأنه شخص لطيف، ويحاول دائماً الدفاع عن القضايا الأخلاقية والإنسانية، بعد أن صوّره لنا ذات النظام، على مدى عقود، على أنه شيطان بذيل، وسلاحه موجّه بشكل دائم إلى صدورنا، حيث كان صادقاً هذه المرة مع شعبه!

من يتابع مسلسلي "باب الحارة" السوري، و"حارة اليهود" المصري، يعرف تماماً أن المشكلة أصبحت بالمسلمين الحاقدين على اليهود الطيبين، الذين يحبون الناس ويقدمون ما لم يقدّمه أي شخص آخر، فمن الطبيعي أن يحب "عكيد" الحارة المسلم، وما يمثله من أهمية معنوية بمفهومه الرجولي، وحمايته لهذه الحارة؛ من الطبيعي أن يحب تلك الفتاة اليهودية لأنها طيبة، وجميلة، ولطيفة، حيث لم تخطئ أبداً في طرح نفسها وعائلتها على أنها يهودية ملتزمة، وأيضاً من الطبيعي أن يكون أبوها طبيباً ومتعلماً، وأخوها شاباً متنوراً ومتعلماً، بالمقابل نرى أبناء حارة الضبع المسلمة، هم من الجهلة، ولا يفهمون بلغة الحوار، وإنما لغة العضلات والسكين، وهي أدوات المجتمع الجاهل الذي أوصلنا إلى هذا الخراب، وجعلهم متفوقين على المسلمين بأشواط بعيدة.

هذا الغزل المستميت، من قبل هذه الأنظمة الديكتاتورية باليهود، من خلال الدراما التي لا تحمل أي هدف فني، أو فكري، سوى تحسين صورة اليهودي في ذهنية مؤيدي هذه الأنظمة، كخطوة أولى نحو تطبيع العلاقات بشكل كامل، واستجداء البقاء في الكرسي، من خلال حلّ جذري لكل الخلافات العالقة بين أنظمة الممانعة، والعدو القديم. لأن تجربة الثورات المضادّة التي عملت بشكل كبير على إنهاء الثورات العربية، لاقت ترحيب الولايات المتحدة التي تتحكم بالمنطقة والسياسات القمعية لحكامها، ومن ورائهم إسرائيل، ليتحقق للأخيرة شعارها التي عملت عليه منذ أكثر من مائة عام، منذ مؤتمر "بال" في سويسرا، وهو "حدود إسرائيل من الفرات إلى النيل" على أيدي حكامها.

(سورية)
المساهمون