أم كلثوم.. لأن الشيء بالشيء يذكر

19 يونيو 2015
+ الخط -

لأن الشيء بالشيء يذكر، أو لأنه ما أشبه اليوم بالبارحة، فقد ذكرتنا زيارة السيسي، برفقة عدد من الفنانين، والفنانات، إلى ألمانيا بالبارحة.. أي رفقة أهل الفن في مصر على تاريخها بالسلطة، لذلك فإننا في هذا التقرير لسنا معنيين بالجواب على السؤال – الذي ربما لو استعنا بأهل التخصص من كل فن، أو علم، ما وقعنا على جوابه - وهو "لماذا يصحب رئيس ما، في زيارة ما، إلى بلد ما، الفنانة إلهام شاهين؟ أو ما حقيقة الدور الذي كانت تمارسه الفنانة يسرا أثناء الجلسات المغلقة بين السيسي والمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل؟.

في البداية، لم نجد بداية معلومة لمتسلسلة الرفقة هذه، إذ يبدو أنها تطول وتطول، لذلك آثرنا أن نختار للناس مثلا فيه غنىً لهم، ولنا، عن الركض بحثاً عن صاحب السبق في هذا المضمار، فلم نجد أغنى مثلاً من كوكب الشرق، أو صاحبة العصمة.

لا يختلف اثنان من الناس على أن السيدة أم كلثوم كوكب بحق في الغناء، والفن، لم يقترب منه أحد، أو حاول الاقتراب، إلا واحترق.. لكن ماذا عن أم كلثوم والسلطة؟

بدأت علاقة السيدة أم كلثوم بالسلطة مبكراً، وإن كانت سلطة محلية آنذاك، إذ نالت موهبتها إعجاب محافظ دمياط وقتئذ، فقربها إليه ولم يتردد في تقديم الدعم لها، حتى باتت تنشد في دائرته، وحضرته، بين الحين والآخر، إلى أن انتقلت إلى العاصمة في عام 1918 كمنشدة للتواشيح الدينية. ثم سرعان ما تبدل بها الحال لتصبح، في بضع سنوات، علماً لا يجهله أحد.


أم كلثوم والملك فاروق:

من ألحان فاروق السنباطي، وكلمات كان قد نظمها أمير الشعراء، أحمد شوقي، في مديح السلطان، محمد رشاد الخامس، سلطان الأستانة، تم تعديلها لتناسب السلطة والسلطان، غنت أم كلثوم أولى "الفاروقيات" حيث أنشدت:

الملك بين يديك في إقباله .. عوّذت ملكك بالنبي وآله
حر وأنت الحر في تاريخه .. سمح وأنت السمح في أقياله
يفديك نصرانيّه بصليبه .. والمنتمي لمحمد بهلاله
يجدون دولتك التي سعدوا بها .. من رحمة المولى ومن أفضاله
يا جنة الوادي ونزهة روحه .. ونعيم مهجته وراحة باله
فاروق جمّلها وزان ضفافها .. عرش يلوذ الشعب تحت ظلاله
وكأنّ عيدك عيدها لما مشى .. فيها البشير ببشره وجماله

وربما كانت هذه الأبيات بداية علاقة كوكب الشرق بالبلاط الملكي، تلك العلاقة التي ربما لم تنتهِ إلا بانتهاء حكم أسرة محمد علي لمصر.

كانت أبرز محطات هذه العلاقة في ليلة عيد الفطر في التاسع والعشرين من رمضان عام 1363 هـ، الموافق السابع عشر من سبتمر/أيلول عام 1944مـ، حيث أحيت أم كلثوم حفلها في ملعب "مختار التتش" بالنادي الأهلي.. وما كادت الوصلة الثانية من الحفل تبدأ حتى أعلنت الإذاعة الداخلية "تشريف حضرت صاحب الجلالة.. مولانا الملك المعظم حفظه الله" نفحة منه وتشريفاً إلى شعبه، وسط تعالي الهتافات على نغمة "يعيش الملك.. يحيا الملك"، "يعيش فاروق.. ملك مصر والسودان"، "شعب مصر للملك"..

وهنا أظهرت الآنسة أم كلثوم قدرةً فائقة على الارتجال، شبيهة بتلك التي كان يستعرضها الشعراء في أسواق عكاظ و مجنة – أو هكذا تروى الرواية – لتحرف كلمات الأغنية من الاحتفاء بالعيد، إلى الاحتفاء "بالملك المعظم".

وهنا أنعم عليها "جلالته" بوسام الكمال الذي منحها لقب "صاحبة العصمة" وجعل منها مساوية بروتوكولياً لأميرات أسرة محمد علي، في سابقة هي الأولى والأخيرة من نوعها.

وهكذا من مسرح لمسرح، ومن مغنى لمغنى، شرعت أم كلثوم في التمجيد والمديح للملك، الذي كان بدوره يستعين بها في مشاريعه السياسية، ففي سنة 1945م، أقامت حفلاً للترويج لفكرة إنشاء جامعة الدول العربية، حضره فاروق مع عدد من الملوك العرب، وقيل إنها تبرعت بعائدات الحفل للجامعة. كذلك فقد أطربت زواج الأميرة فوزية - شقيقة الملك فاروق- من وليّ عهد إيران، آنذاك، محمد رضا بهلوي.

أم كلثوم والضباط الأحرار:

ما إن قامت حركة من عرفوا وقتها بالضباط الأحرار في عام 1952، حتى انقلبت أم كلثوم على الملك وتاريخها على حد سواء، وتلقفها هؤلاء الضباط بالعناية والترحيب، فبعد أن تم تلقيبها بـ "مطربة العهد البائد" وتم منع إذاعة أغانيها، وكذلك طردها من نقابة الموسيقيين، من قبل الضابط الموكل إليه أمر الإذاعة، ألغيت هذه الإجراءات، لتظهر على غلاف مجلة الفن مصافحةً الرئيس محمد نجيب، وقد أعرب الخبر عن تهنئة الرئيس اللواء أركان حرب سيدة الغناء في الشرق، الآنسة أم كلثوم، على توفيقها ونجاحها الذي لا حدّ له في أغانيها التي سحرت بها جماهيرها في حفل افتتاح سينما ريفولي، التي خُصّص إيرادها لجمعية مشوّهي الحرب، حتى أنها حين احتاجت إلى السفر إلى الولايات المتحدة الأميركية لإجراء عملية جراحية، كان أنور السادات في وداعها حتى سلم الطائرة.

ومن ثم تظهر مرة أخرى بعد انقضاء رحلتها العلاجية على مجلة "الكواكب"، لتقطع آخر ما كان يربطها بالعهد القديم تحت شعار "التطهير"، وتذهب إلى محطة الإذاعة لتشرف بنفسها على تنقية بعض الأغاني من فقرات خاصة بالعهد الملكي، ولانتزاع هذه الفقرات من التسجيلات، حتى يمكن إذاعتها نقية خالصة ليسمعها شعب حر كريم، بحسب المجلة.

وكما كان للفاروق فاروقيات، كان كذلك لعبد الناصر ما يجوز أن نسميه ناصريات، فقد غنت صاحبة العصمة (سابقاً) غير أغنية لعبد الناصر شخصاً، ناهيك عن عبد الناصر مشروعاً، إن كان له مشروع أصلاً، ولعل أبرز هذه الناصريات ما غنته أم كلثوم له بعد ما سمي يومها بالتنحي، لتشارك في الحملة المنظمة التي شنتها الدولة المصرية لشرعنة بقاء عبد الناصر في السلطة رغم نكسة السابع والستين، قائلةً:

قم واسمعها من أعماقي
فأنا الشعب
إبقَ فأنت السد الواقي
لمنى الشعب
إبقَ فأنت الأمل الباقي
لغد الشعب
أنت الخير وأنت النور
أنت الصبر على المقدور
أنت الناصر والمنصور
إبقَ فأنت حبيب الشعب
حبيب الشعب ..دُم للشعب

أم كلثوم والمعارضة السياسية للسلطة:

لم تكتفِ السيدة أم كلثوم بتأييدها غير المشروط للسلطة، أية سلطة، جمهوريتها أو ملكيتها، بل تجاوزت إلى معارضة المعارضة وقمعها فنياً، عبر عدد من الأغنيات المشبعة بالتهليل والتطبيل للسلطات في استبدادها، وتخوين كل من يقف ضد استبدادها هذا، ورميها الصريح لهم بالعمالة لإسرائيل ووصفها بالعدو، والشياطين، وأشياء أخرى لا تختلف أبداً، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون، عن أغنيات خلفها في نقابة الموسيقيين، الفنان مصطفى كامل، إلا من حيث رداءة ألحان وركاكة كلمات الأخير، مقارنة بكوكب السلطة، وهاتيك أبيات أنشدتها لم نتقولها عليها:

باسم مين يا خارجين ع الشعب انتم باسم مين ؟
باسم إسرائيل والاستعمار وباسم المأجورين ..
والا باسم الشعب والشعب البطل منكم بريء ..
يا خارجين ع الشعب انتم باسم مين ؟
غضبانين من إيه ومن مين الغضب يا مخدوعين
غضبانين من النصر بعد النصر للشعب الأمين
والا من مجد العروبة اللي انتشر في العالمين ؟
بالمساواة والعدالة والمحبة غضبانين
ياخارجين ع الشعب انتم باسم مين ؟

هكذا إذن، كانت السيدة، وكان كل الفنانين من بني جيلها، وها قد ذهبت أم كلثوم، وذهبت معها السلطة التي كانت تنافقها، والمعارضون الذين كانت تحرض على قتلهم وسجنهم وضربهم بكل كف قادرة، لكن هذه السلطة ورثتها سلطة أخرى هي أقبح وأفشل، والفنانة أم كلثوم خلفها فنان هو أردأ وأسوأ، والمعارضون هم هم، لم يزالوا يذبحون على عتبات المسارح ودور السينما بالكلمات والألحان، والعدو هو هو، لم تزده هذه الألحان والكلمات إلا انتصاراً، وإلا فانظروا كيف إسرائيل اليوم!

(مصر)

المساهمون