توازن قوة أم توازن تهديد..الرسائل الروسية في البريد السوري

12 نوفمبر 2015
روسيا ترى في الأسد مجرد ورقة ضغط (فرانس برس)
+ الخط -
تبلغ المسافة الفاصلةُ ما بين العاصمة السورية، دمشق، والعاصمة الأوكرانية، كييف، ألفي كيلومتر. إلّا أنه وكما يبدو، لم تمنع تلك المسافة من ربط المصير السياسي لكلا البلدين، ووضع مفاتيح الحلِّ والعقد فيهما بيد دولة واحدة، هي روسيا.


قبل تدخّلها في سورية، قضمت موسكو شبه جزيرة القرم، وسعت في تقسيم أوكرانيا إلى شرقيةٍ وغربية، وبعد أشهرٍ من فراغها من ذلك، قرّرت التدخل في سورية من بوابة مكافحة الإرهاب و فعلت ذلك في أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي، ضاخةً دماءً جديدة في جسد نظام الرئيس بشار الأسد المنهك، ومعيدةً له أملاً كانَ قد فقده في تجنب السقوط والانهيار.

لم يكن قرارُ موسكو الانخراط في الصراع ليصير بلا ثمن مادي، ووفقاً لمجموعة جين الإعلامية، وهي قاعدة بيانات بريطانية مفتوحة المصدر، فإن العمليات العسكرية الروسية في سورية تكلف يومياً 4 ملايين دولار أميركي، ما يعني أن روسيا دفعت حتى تاريخه ما يقارب الـ125 مليون دولار، دون احتساب الـ26 صاروخ كروز، التي أطلقت من بحر قزوين، صبيحة 8 أكتوبر/تشرين الأول 2015.

إلّا أنَّ الثمن المادي الذي تدفعه موسكو، وبعدَ مقارنة بسيطة بميزانيتها الحربية للعام الماضي، والتي وصلت إلى ما يقارب 85 مليار دولار، يبدو قليلاً ، خصوصاً إذا حققَ الأهداف المرسومة له. وبحسابٍ آخر: إذا قرّرت روسيا تطويل أمدِ أعمالها العسكرية لعامٍ كامل، فإنها لن تدفع سوى 1.7% من ميزانيتها العسكرية. ثمنٌ قد يكون بمثابة شراء طوابع لرسائل تضعها في صندوق البريد السوري في طريقها إلى الغرب لتحقيق أهداف جيوسياسية أبعد بكثير من الأزمة السورية يسعى إليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

يرى سياسيون، وفي طليعتهم الأميركي ستيفن والت، أن التحالفات تبنى أساساً كردٍ على التهديدات أو السلوك العدواني الذي تقوم به دولٌ أو تحالفاتٌ أخرى. وبناءً عليه، يكون التدخل الروسي في سورية تحت ذريعة محاربة الإرهاب، الذي يدّعي الغرب محاربته منذ عقود، محاولة لبناء حلف يجمعها ودول أوروبية، تناصبها قدراً من العداء وفي مقدمتها ألمانيا وبريطانيا وفرنسا. إضافة إلى ذلك، تتيح ذريعة محاربة الإرهاب فرصة لدفع الإدارة الأميركية إلى تغيير سلوكها الأقرب إلى العنجهية في التعامل مع موسكو.

إذن، سعت موسكو، ومن خلال تدخلها، لإيصال رسالة إلى الغرب عموماً، وواشنطن خصوصاً، مفادها: ما نفعلهُ في منطقة الشرق الأوسط يحصل تحت مظلة "توازن التهديد" وليس "توازن القوى".

اليوم "تقاتل" موسكو عدو واشنطن في المنطقة، التنظيمات الإرهابية. إلّا أنَّ تلك الرسالة، سريعاً ما تمَّ الرد عليها بإهانة؛ فقد قامت الإدارة الأميركية برفض استقبال رئيس الوزراء الروسي دميتري ميدفيديف لمناقشة الوضع السوري، وقال المتحدث باسم البيت الأبيض جوش إيرنست: "لقد قلنا إننا لسنا مهتمين بفعل هذا (تنسيق العمليات العسكرية مع روسيا) طالما أنَّ روسيا لا تُبدي رغبة في تنفيذ مبادرة بنّاءة في جهد محاربة تنظيم الدولة الإسلامية".

هنا، تبدو نظرية "توازن التهديد" قاصرة عن تأطير التحرك الروسي لأن الأميركيين اعتبروا الدعوات الروسية طُعماً للدخول في مفاوضات مباشرة تُفتح فيها جميع الملفات، التي سيكون من بينها أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية. والأهم من ذلك، إعادة الاعتبار المعنوي للرئيس فلاديمير بوتين الذي تم التعامل معه كمنبوذ في المحافل الدولية، منذ أن قام بضم شبه جزيرة القرم. وبعد الرفض الأميركي للتحاور مع الروس بشكل ثنائي، تمت الدعوة لرباعية تضم إلى جانب البلدين وزيري خارجية تركيا والسعودية، وكأن لسان الحال الأميركي يقول: إن هاتين الدولتين هما المخولتان بالحديث عن المنطقة، وربما تقديم التنازلات التي يجب أن تكون مرتبطة بالشرق الأوسط، وليس وفق مبدأ مقايضة الملف السوري بملف آخر في منطقة أخرى.

لقد كان الرفض الأميركي للجلوس مع الروس بشكل فردي والاجتماع الرباعي، بمثابة تأكيدٍ على التوجه الأميركي لفصل المشاكل عن بعضها، وصياغة حلولٍ لها، ولكن ليس على المستوى الكلي للعلاقات الدولية، بل على المستوى الجزئي؛ الأزمة السورية ضمن نطاق جغرافيا الشرق الأوسط، والأزمة الأوكرانية ضمن نطاق جغرافيا أوروبا، والأزمة الاقتصادية ضمن نطاق أروقة المؤسسات الدولية المعنية.

السؤال المطروح هنا: إن كانت روسيا تمسك بمفاتيح الحلّ والعقد في سورية وأوكرانيا، وإن كانت تسعى إلى المقايضة في الملفات أو الدفع باتجاه حل سياسي تراه مناسباً في بلد على حساب حل لا ترتضيه في البلد الآخر، فهل تسبق سورية أوكرانيا في سلم الأولويات أم تتأخرها؟

يُنظر إلى الأزمة السورية، في عالمنا العربي، على أنها محطة جوهرية في التاريخ الحديث للمنطقة. ولاشك في أن شكل الشرق الأوسط في اليوم التالي لسقوط الأسد، سيكون مختلفاً تماماً عما نراه الآن أو حتى نتوقعه، ذلك أن المعركة على دمشق لم تعد بين سلطة تمارس القهر، وبين شعبٍ يسعى للحرية، بل صراعٌ على هوية المنطقة برمتها.

أما على مستوى الاهتمام الغربي، فتتقدم الأزمة الأوكرانية على نظيرتها السورية. وفي مثال على ذلك، ووفقاً لخدمة غوغل لقياس اتجاهات البحث، تم ذكر سورية في 10 آلاف تقرير إخباري - سبتمبر/ أيلول 2013 - عندما أكدت الأمم المتحدة استخدام نظام الأسد لأسلحة كيماوية في سورية، بينما تم ذكر أوكرانيا 16 ألف مرة عندما أقر مجلس الدوما استخدام القوة في أوكرانيا مارس/ آذار 2014.

أما بالنسبة للاهتمام الشعبي بالموضوعين، فعدد مرات البحث باللغة العربية عن كلمة "سورية" بلغ في مارس/ آذار 2014 ما يقارب الـ 4700 مرة، أما البحث عن كلمة "أوكرانيا" في ذات الشهر، فقارب الـــ800 مرة.

في اللغة الإنجليزية كان عدد مرات البحث 900 مرة لسورية وعشرة آلاف مرة لأوكرانيا. وفي اللغة الروسية، في ذات الفترة، مائة مرة عن سورية في مقابل عشرة آلاف مرة لأوكرانيا.
لا تستطيع الدول العربية المساندة للثورة السورية، مع تركيا، تقديم تنازلات تذكر في الملف الأوكراني، أو في طريقة تعامل الغرب مع روسيا. ربما تؤثر في أسعار الطاقة، ما يعني أن موسكو قد تدفع أثماناً أقل من 1.7 في المائة من ميزانيتها العسكرية في الحرب السورية. وعليه، فإن الضربات الروسية ستستمر، ذلك أن سورية ورئيسها بالنسبة للروس ليسوا بالحلفاء الاستراتيجيين الذين تنبغي حمايتهم، بل هم مجرد أوراق ضغط تستخدم في الوقت والمكان المناسبين، بهدف تحصيل أكبر قدر ممكن من المكاسب الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية على الصعيد الدولي.

الحل الأنسب قد يكون دعم المعارضة السورية بشكل أكبر، وكما هزم السوريون نظام الأسد وبعده الإيرانيون وحلفاؤهم، ودفعوا موسكو لتصدر المشهد، يستطيع السوريون أيضاً هزيمة الروس في جولة قد تكون الأخيرة في سبيل نيل حريتهم شرط أن يوفر الأصدقاء أسباب النصر.

(سورية)
المساهمون