أخطاء وعثرات النشاط المدني.. ممنوعة في محطة إدلب

09 ابريل 2015
+ الخط -

من الرقة إلى إدلب مروراً ببصرى، وعودة بالذاكرة إلى حمص، عاصمة الثورة السورية، وعطفاً على مجموعات بسيطة حاولت قبل مارس/آذار 2011 أن تخلق عملاً مدنياً يربط السوريين ببلدهم المغيب عنهم في معتقل النظام، وصولاً إلى مخيم الزعتري والعديد العديد من تجمعات المدنيين اللاجئين على محيط الحدود السورية، تتبدد يومياً جهود آلاف الشباب في تقديم ما يسعف الجرح السوري النازف بعمل مدني لا ينجح في النهاية بإنقاذ سوى قلة قليلة من بؤس اختاره لهم النظام بصواريخه ورصاصه ومعتقلاته.


وكانت البداية

منذ الأيام الأولى لخروج عدة مناطق عن سيطرة النظام في ظل الثورة السورية، وحتى قبل تشكيل الجيش السوري الحر، انكبّ العديد من الشباب السوري على تنظيم أنفسهم في مجموعات مختلفة تعمل على تقديم عمل مدني يعوض الأهالي عن العقوبة التي أنزلها النظام بهم، نظراً لطلبهم الحرية، فشهدنا مجموعات الإغاثة والتي استشهد العديد من عناصرها خلال محاولاتهم العبور من مناطق النظام إلى المناطق المحررة المحاصرة، وشهدنا مجموعات التعليم التي عمدت إلى خلق أنشطة تعليمية لأطفال أجبروا على ترك مدارسهم بعد تدميرها بصواريخ موجهة من قبل النظام السوري، إضافة إلى المنتديات والمراكز النسائية والتي تعاظمت أهميتها مؤخراً، نظراً لخسارة العديد من النساء معيلهن، سواء في المعتقل، أو على جبهات القتال ضد النظام، أو برصاصة قناص يهوى القتل لمجرد القتل.

وفي ظل احتدام الصراع بين النظام والثوار، وتطفل مجموعات متطرفة على المناطق المحررة، شهد العمل المدني تراجعاً كبيراً بعد أن بدأ يزدهر ويتطور، وتشوبُ الحديثَ عن النشاط المدني في سورية الثورة غصة كبيرة في ظل غياب رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادي ووائل الحمادة في الغوطة الشرقية على أيدي مجهولين، وهم مَنْ كان لهم فضل كبير في خلق شبكات من العمل المدني المنظم لخدمة المجتمع السوري الذي أنهكته صواريخ وسجون الأسد.

فمن منا ينسى لجان التنسيق المحلية صاحبة التجربة الرائدة في توثيق انتهاكات النظام، ونقل حقيقة ما يجري على الأرض، إضافة إلى دعم أنشطة مدنية في المناطق المحررة، لينبثق عنها لاحقاً مركز توثيق الانتهاكات.

لعل الإعلام لم يتمكن من التقاط المجموعات الشبابية، التي عملت ولا تزال بصمت لصالح المدنيين في سورية. ألوان تهرب في حقائب نسائية للرسم على وجوه الأطفال وحلويات ترتب بحجة عيد ميلاد الابن أو الابنة، وجوارب وأزرار لصناعة الدمى توزع على عدة أفراد، فهذا أضعف الإيمان، ورغم نبل الهدف إلا أن النظام عمل على تشويه صورة الناشطين المدنيين، واتهمهم بالعمالة والخيانة، وربط مقدمي الإغاثة بالسلاح، وقتل تحت التعذيب من سولت له نفسه السمو بالعمل المدني في ظل صوت الرصاص والصواريخ، فإن كان هناك عدو للعمل المدني في سورية، فهو لا شك النظام.


وبداية البداية

قبل الثورة بعدة أعوام، بدأ السوريون بالتململ والضغط بأشكال متعددة باتجاه العمل المدني مستغلين الانفتاح الشكلي، الذي كان النظام يحاول صبغ سورية به، وأمام المحاولات المتكررة اضطر النظام لفتح مجالات محدودة واضعاً إياها تحت الرقابة والسيطرة، فحتى حملات النظافة التي كانت تتم هنا وهناك، كانت تسبقها جلسات طويلة مع مسؤولين أمنيين متوجسين من العمل المدني الرابط ما بين أرض سورية وأبنائها خوفاً من خلق شعور بالانتماء لا يريدونه، وكان من النماذج الشهيرة الأمانة العامة للتنمية، والتي كانت تحت أنف أسماء الأسد، زوجة بشار الأسد، بشكل مباشر، والتي دربت عدداً من الشباب، سارعوا في بداية الثورة إلى وضع خبراتهم في خدمة المجتمع بشكل مباشر، ونصدق القول هنا أنهم كانوا في خدمة المجتمع أكثر مما نقصد خدمة جهة سياسية أو موقف سياسي، إلا أن النظام وجد في تعاملهم مع المناطق الثائرة خيانة كبرى أجابها بالاعتقال والتعذيب والملاحقة، وكأنه يريد أن يلغي كل منطقة خرجت بمظاهرة لإسقاط النظام ويلغي كل من دعم أهلها ولو معنوياً.


الرقة نموذجاً... مات

عاشت الرقة مرحلة قصيرة من ازدهار النشاط المدني ليأتي تنظيم الدولة الإسلامية ويقتل كل عنفوان وأمل تفتح بها إثر تحررها من براثن النظام. قصة الرقة ستبقى شاخصة أمام السوريين يخشون تكرارها، فبمجرد تحررها عانت من ضربات السكود، الذي أعاق وبقوة تحولها لنموذج ناجح، وجعل ناشطيها ينصرفون إلى إسعاف مصاب مدنيتهم عوضاً عن النهوض بها، حتى جاءهم تنظيم داعش وأسدل الستار على قصة نجاح ممكنة، وتوقف النظام عندها عن القصف ليتساءل السوريون أيهما أرحم قصف النظام أم سكين داعش!.

لعل حلب وإدلب من المناطق التي رصد الإعلام فيها عدداً من الأنشطة المهمة "مسرحيات عديدة تجسد واقع الثورة، منتديات، ومكتبات، ومراكز نسائية صمدت في وجه كل محاولات إغلاقها"، لنصل إلى تجربة في الواقع ليست مميزة على صعيد سورية فحسب، بل على صعيد عالم يفتح فمه بغباء أمام المأساة السورية ويقول لا شيء نستطيع فعله "الوضع معقد". إنهم رجال الدفاع المدني، المؤسسة الأكثر قرباً إلى قلوب السوريين والأكثر نجاحاً إلى يومنا هذا من حيث التنظيم والصمود في وجه العقبات. تتواجد اليوم مؤسسة الدفاع المدني في عدة محافظات يعمل شبابها في أغلب الأشهر دون رواتب، لأن الوضع المالي سيىء وبالنسبة لهم فقد اختاروا عملهم من مبدأ أخلاقي وإنساني ومدني قبل أن يكون مادياً.

على الحدود السورية تتوزع منظمات المجتمع المدني، تدعم النساء هنا، والطبابة هناك، تفتح مدرسة نموذجية في قرية محررة، وروضة للأطفال في قرية أخرى، تقدم الإغاثة والملابس في مخيم منسي، وتدعم المنتديات الفكرية في رقعة محررة أخرى.

إن الجمود السياسي، الذي تشهده القضية السورية، ومع تحرير المزيد من المناطق، يفسح المجال لمنظمات المجتمع المدني لتكون حامل الهم والمسؤولية، والتحدي هو استمرار تأمين الدعم لها في ظل اتهامات غربية بسيطرة القاعدة والمتطرفين على العديد من المناطق، وهي حجة كافية بالنسبة لهم للتخلي عن المدنيين في تلك المناطق، متناسين أن السوريين أنفسهم هم ضحايا مستهدفون من قبل المتشددين، وأنهم يأملون في نشاط مدني ينظم حياتهم في ظل تجربة الحرية والانعتاق من آل الأسد، ولعل الأنظار اليوم تتطلع نحو إدلب العروس حديثة العهد بالحرية، يشوبها القليل من القلق والشك في جبهة النصرة الضيف الجديد على المدينة، والتساؤل: هل ستعيد النصرة تجربة تنظيم الدولة الإسلامية الذي قتل الحلم قبل أن يتشكل واقعاً؟

إدلب اليوم هي جنين السوريين ولا حاضن لها سوى منظمات المجتمع المدني، في ظل إفلاس سياسي ومالي حرفياً لمؤسسات المعارضة. نأمل أن الجهود "الجبارة المجهولة" لنشاط المجتمع المدني ستصب في مصلحة جنين سورية، ليكبر ويصير نموذجاً وقبلة لقلوب السوريين وعطاءاتهم.


(سورية)

المساهمون