"باص ألف ليلة" يلاحق القرّاء

12 ابريل 2015
بانتظار الدخول إلى باص ألف ليلة للمطالعة (نويد أحمد)
+ الخط -
إن لم يكن بإمكانهم الوصول إلى الكتب والمكتبات، فإن المكتبات والكتب نفسها تأتيهم. وإن لم يكن ثمة زاوية هادئة توفر لهم جواً للمطالعة، فإن هذه الكتب المتنقلة تأتي معها بغرفة مخصصة للقراءة. وهكذا، غير آبهين بالحرارة اللاهبة في ناحية مولتان، أو صقيع البرد في سكاردو، يأتي هؤلاء الشبقون للقراءة ليغرفوا ما يمكنهم غرفه من معرفة عبر الوسائل التقنية التي توفرها مكتبة "الباص" المتنقلة هذه، وما توفره أحياناً من إطلالات "أونلاين" على ما يصدر من كتب في العالم. هذا هو "باص مكتبة ألف ليلة" المتنقلة، وما تطور عنه من أفرع ونوادي الكتب في باكستان، والتي تزور المدارس في المناطق النائية أو تلك التي لا تصلها الكتب ولا تحظى بوجود مكتبات. وفي هذه السنة تستهدف مكتبات ألف ليلة إقامة 300 مكتبة صغيرة في طول البلاد وعرضها.

هذا الباص ذو الأرفف الأفقية المكدسة بالكتب، لم يكن يوماً من أحدث الموديلات، لكنه الباص الذي ترجم حلم صاحبة الفكرة العبقرية، نيتا بيكر، في إعادة إحياء تقليد القراءة وسرد الحكايات عام 1978. بيكر، معلّمة وصلت في تلك السنة إلى لاهور برفقة زوجها الأميركي الذي ابتعث إلى المدينة.

صحيح أن السيدة نيتا لم تكن تملك عصاً سحرية لتغيير العالم آنذاك، لكن رؤيتها الثاقبة والمستقبلية كانت مصدر الإلهام الشبيه بالسحر، والمحفّز لإرادتها. في ذلك الوقت، لم تكن ثمة قنوات تلفزيونية أو هواتف نقالة أو انترنت. وكانت عادات سرد الحكايات بالطرق التقليدية الجميلة قد بدأت بالأفول.

في سنوات طفولة نيتا، تتذكر كيف أن الأولاد كانوا يعتادون على التجمع حول آبائهم أو أمهاتهم أو أجدادهم أو جداتهم ليستمعوا إلى تلك القصص الممتعة، وينصتوا بلهفة وشوق لكل تفاصيل القصة، آملين أن تأتي النهاية السعيدة. ربما كانت تلك الذاكرة ورومانسية الماضي الخصبة هي ما دفع نيتا إلى رفض ذلك الأفول الحزين للتقليد الطويل والغني في سرد الحكايات، وكان خلف عزمها إطلاق مبادرة للحفاظ عليه، وعلى تاريخ الرواية معه. شجعها أيضاً الواقع المزري للكتب والمكتبات (وكنوزها المدفونة) في لاهور، حيث بلغ الإهمال حداً فظيعاً، في نظرها.

نيتا غادرت إلى أميركا مبكراً بعد ولادة مشروعها الذي تركته بين أيدي بصارات كاظم، التربوية التي رافقت نيتا في المشروع، الذي أدارته وما زالت تديره حتى الآن. كاظم حوّلت المشروع البسيط، الباص/ المكتبة، إلى جمعية غير حكومية متكاملة وقائمة بذاتها: "جمعية باص مكتبة ألف ليلة"، ذات حضور مبهر في لاهور وجوارها. ومع مرور السنوات، حازت الجمعية على عشرات الجوائز المحلية والدولية، بالإضافة إلى جائزة أفضل ممارسة تعليمية للكومنولث لسنة 2007. وأصبحت الجمعية شريكاً أساسياً لعشرات المؤسسات والجمعيات الدولية المهتمة بالمرأة ومحو أميتها وتمكينها. وهكذا تحوّل باص ألف ليلة ذي الطبقتين والمستقر في أحد الحدائق العامة في مدينة لاهور، إلى معلمٍ مشهور: الطبقة الأولى منه مخصصة للأطفال في سن الثامنة أو أقل، يقرأون فيها قصص أليس في بلاد العجائب، أو مغامرات عمر عيار، وخيبات الملا نصر الدين، وتحتوي أيضاً على كتب هاري بوتر، وألف ليلة وليلة. أما الطبقة العلوية منه، فقد خصصت لجلسات "رواية الحكايات"، حيث تسردها عادة إحدى المعلمات، وهي الجلسات التي تهدف إلى إحياء التقليد القديم في السرد الشعبي والمحافظة عليه.

فرض "الباص/ المكتبة" نفسه على المجتمع والرسميين، فدعمته حكومة البنجاب من خلال بناء مكتبة مراجع ملاصقة له. وقد تنامت المكتبة التي صارت جزءاً من الباص مع السنين لتحتوي على أكثر من خمسة آلاف كتاب في الموضوعات المختلفة، وينتسب إليها "أعضاء" يستخدمون الكتب ويستعيرونها وفق نظام خاص، ويستقبل أيضاً زيارات جماعية من قبل مدارس، سواء من لاهور أو غيرها. وفي سنة 2007 وحدها، انتسب إلى "عضوية المكتبة" ما يقارب ألفاً وخمسمئة تلميذ، من المدارس الحكومية والخاصة. وإضافة لهؤلاء الأعضاء الذين تفخر بهم المكتبة (والباص)، هناك زيارات دائمة من قبل تلاميذ المدارس في المنطقة وما يتعداها.

بيد أن الطموحات المرافقة لباص ومكتبة ألف ليلة ظلّت تتّسع وتصل إلى أوسع مدى، وعلى مستوى باكستان كلها. فبحسب أسماء شودري، إحدى زميلات بصارات في إدارة الجمعية المشرفة على المكتبة، فإن الهدف الأساسي تطور ليصبح تشجيع ثقافة القراءة في باكستان وإيجاد حلول للمشكلات التعليمية ضمن ما تتيحه القيود الاجتماعية والاقتصادية في باكستان، وإيجاد استراتيجيات فعالة للوصول إلى محو كامل للأمية، وتحديداً في صفوف الإناث.

الباص/ المكتبة... وأدب الأطفال

أبعد من مسألة محو الأمية وتشجيع القراءة، فإن مبادرة "ألف ليلة" صارت تترك تأثيراً كبيراً في حقل أدب الأطفال في باكستان. ذلك أنه في السنة التي انطلق فيها الباص/ المكتبة، كان هناك عدد ضئيل من كتب الأطفال باللغة الأوردية متوفر في المكتبات. وحتى ما كان متوفراً منه فقد كانت تنقصه الرسومات السهلة، والمضمون المثير لاهتمام الأطفال، وكانت تستحوذ عليه النزعات الوعظية المملة. وثمة تاريخ أبعد ومتقلّب لأدب الطفل في باكستان، ذلك أنه، ومنذ تأسست الدولة عام 1947، وحتى قبل ذلك، كان هناك حضور معقول لأكثر من مشروع خاص بأدب الطفل. أولها كانت مجلة الأطفال الشهيرة الناطقة بالأوردية، "فوول"، والتي ظلت تسجل حضوراً لافتاً على مدار عقود من السنين. ثم هناك "فيروزونس"، والتي أسسها مولاي فيروز الدين في لاهور عام 1894، ليس فقط بهدف أن تكون مجلة استثمارية، ولكن للمساعدة في محو الأمية ونشر الثقافة. وفي عام 1953، أسس الأديب المشهور (والطبيب) حكيم سعيد، مجلة الأطفال الشهرية "حامدرد نونيهال". اليوم تعمل مكتبة باص ألف ليلة على النهوض بأدب الأطفال ونقله إلى الأمام.

يمكن القول إن حقبة سبعينيات القرن الماضي شهدت الموجة الأولى من الكتب الأجنبية التي ترجمت إلى الأوردية، والتي كانت معقولة من ناحية توجهها للأطفال وإثارتها لفضولهم. ففجأة انفتح عالم واسع أمام الأطفال الباكستانيين اشتمل على عدد هائل من القضايا والاهتمامات. لكن على الرغم من ذلك ومن حقيقة أن هذه الكتب الجديدة كانت أفضل بكثير من الكتب التي وجدت حتى ذلك الوقت واستهدفت الأطفال، إلا أن هذه الموجة من الكتب بقيت تحمل سمة غريبة عن الثقافة المحلية، كما أن شخوص الكتب والقصص لم تكن لها علاقة بالبيئة الباكستانية ولا بتقاليدها. وعمل الباص ـ المكتبة خلال العقدين الماضيين على إثارة اهتمام الحكومات المتتالية وكذلك القطاع الخاص بشركاته ومؤسساته إزاء مسألة التبرع بالكتب للمدارس وللمبادرات الشبيهة بمبادرة الباص/ المكتبة، والاستفادة من الكتب الأجنبية وترجمتها إلى الأوردو، لكن مع نكهة وثقافة محلية. صار المزاج الشعبي يختلف أيضاً تجاه الكتب والمكتبات، إذ يقول محمد رمضان، وهو معلّم متقاعد تحتوي مكتبته الخاصة على أكثر من 12 ألف كتاب ومخطوطة: "كان الذوق العام قد بدأ بالاختلاف، حيث بدأ التلفزيون الملوّن باقتحام المجتمع والحارات تدريجياً، طارداً جلسات المساء التي كانت تُسرَد فيها الحكايات بطريقة تقليدية". وفي تلك الفترة نفسها ظهر "الباص المكتبة"، وتحوّل إلى جمعية "ألف ليلة"، كما أن مجلتا "فيروزنس" و"هامدارد" قامتا بدور كبير في تغطية الموضوعات والقصص عبر أحدث وسائل الطباعة وصارتا تحظيان بشعبية كبيرة جداً، بين الشباب خاصة.

اختلف الأمر مع منتصف الثمانينيات التي شهدت نمو اندفاعة جديدة في حقل كتب الأطفال في باكستان، ودخل إلى ميدان النشر ناشرون كثيرون جدداً، ومعهم دخلت أنواع جديدة وحديثة الإنتاج والإخراج من كتب الأطفال، تعتمد على وسائل جذابة وتفاعلية بين الكتاب والطفل، بما في ذلك عضوية وتكاملية النص والرسم. ومع مرور السنوات، كما هي الحال في أكثر من مكان، فإن التطور السريع في التكنولوجيا فرض تحديات كبيرة على صناعة النشر لجهة إنتاج كتب ذات نوعية راقية، لكن في الوقت نفسه ذات ربحية معقولة. وكانت كتب الأطفال تواجه بدورها التحديات التي تواجهها صناعة النشر بشكل عام.

ثم جاءت الأقراص المدمجة (سي دي)، ثم تكنولوجيا الآي باد وما تحمله من مواد تصويرية درامية أو تعليمية، لتزيد من تهميش كتب الطفل، ولتقدم نفسها بكونها أكثر فعالية في المجال التعليمي والتربوي. تلك التحديات وغيرها، فرضت على الحكومة أن تزيد من دعمها لقطاع صناعة كتب الأطفال حتى لا يتعرض للانقراض التام تحت وطأة قوانين السوق والكلفة. ولو لم تقم الحكومة بذلك، وكما يقول تربويون كثر، لبقي قطاع كتب الأطفال متخلّفاً عن بقية القطاعات، ولحرم أطفال باكستان، وهم ثروتها المستقبلية، من مواكبة ما يحدث من تكنولوجيا كتب ومطالعة واكتساب مهارات في العالم. في هذا المناخ، كانت جمعية "باص مكتبة ألف ليلة" تستخدم آخر ما تستطيع الوصول إليه من وسائل تكنولوجية حديثة في مجال كتب الأطفال، وتحاول سد الفجوة بين ما يرغب في قراءته الأطفال وبين ما هو متوفر حقاً.

رواة الحكايات

في كل رحلة من رحلاته المتنقلة، كان يرافق "الباص/ المكتبة" أحد رواة القصص (أو: داستانغو، بالاوردو)، وينتقل معه إلى المدارس المحيطة بلاهور. لقد زار هؤلاء الرواة مدارس وقرى لم تصلها وزارات التربية والتعليم على مدار سنوات طويلة. إضافة إلى ذلك، توفر رحلات "الباص/ المكتبة" وسائل مبتكرة للوصول إلى آلاف الأولاد الذين يتجمعون حول الباص وكتبه، وذلك بهدف تشويقهم وجذبهم إلى قراءة الكتب. وفي مقدمة ذلك، توفير عربة ثلاثية العجلات تسمى "ريكشو"، تأخذ الـ"داستانغو" معها، وتستطيع الوصول إلى المناطق التي لا تصلها الشوارع العادية ويستحيل معها على الباص السير فيها. وعبر هذه العربة تم الوصول، عام 2014 مثلاً، إلى أكثر من 150 مدرسة ومستشفى، وإلى أكثر من خمسة عشر ألف طفل في منطقة جنوب البنجاب. وهكذا يشتغل "الباص/ المكتبة" وما يرافقه من أفكار ووسائل في اتجاه معاكس تماماً لما يحدث في باكستان على مستوى الكتب والمكتبات من أفول محزن وإهمال حكومي متواصل.

(صحافي استقصائي، إسلام آباد)
المساهمون