أيّة دهشة؟

23 ديسمبر 2014
+ الخط -
حين حطّت بي الطائرة في هذه المدينة العربية التي لم أزرها من قبل، ووصلتُ إلى مكان اللقاء للمشاركة في ندوة حول "الدهشة في الأعمال السرديّة"، انتابتني دهشة لم أكن أتوقعها قطّ، حين همست في أذني الأديبة الشابة المولجة إدارة الحوار قائلة: "أتعلم، إني، في روايتي الأخيرة، أخبِّرُ قصة حياتك". "قصّة حياتي أنا؟"، أجبتها مذهولاً. ثم أضفت: "لا شك في أنكِ تخلطين بيني وبين شخص سواي. نحن لا يعرف أحدنا الآخر، ولم نلتقِ من قبل، فماذا تعلمين عني؟". قالت لي بابتسامة: "سأهديك الرواية عند انتهاء الندوة".

كنتُ أتوقع ربما أي شيء، إلا هذا. بتّ أسيرَ دهشة غرائبية تحوطني، وأنا ألج هذه الندوة حول الدهشة. بقيتُ طوال الوقت، خلال إصغائي إلى ما قاله المشاركون الثلاثة، وخلال مداخلتي، وما تلا ذلك من أسئلة وإجابات، أفكّر باستغراب في ما ذكرته الكاتبة عن روايتها، إذ لم نتعارف من قبل، ولم تتّصل بي يوماً لأزوّدها معلومات عني، فأيّ لغز هو هذا؟ 

شتّتَ كلامها أفكاري وبعثر الأوراق في ردهة ذاتي. عن أية دهشة سأتحدّث؟، قلت لنفسي. بذلت جهداً كبيراً لاستعادة ما حضّرته جوّاً، وعثرتُ بصعوبة على بداية السياق. تذكّرتُ أنّي لن أتناول التشويق في السرد، مع أن موضوع الدهشة يقود إليه. الدهشة أغنى وأعمق وأجمل وأوسع مدى بكثير. ثم هي ليست وقفاً على الكتابة السردية، إذ تكمن في مجمل الآداب والفنون، في الرسم والعمارة والموسيقى والسينما، كما في الفلسفة، كما في العلوم وإنجازاتها المذهلة، ومنها وجودنا في هذه الطائرة، ما يتعذّر على النفوس الكبار تصوّره وتصديقه على مرّ القرون، وما لم يعد يُدهش أحداً.

إن الدهشة حالة نسبية، إذ يتعذّر فصل الدهشة عن المدهوش. فالعارف بكل شيء لا يُدهَش بشيء، وغير العارف بشيء يُدهشُ بكل شيء. لكن منْ، بين البشر، عارفٌ بكل شيء؟ يرد في "كتاب الحالة": " إذا كان العارفُ عارفاً فأنا لستُ شيئاً".

بعدها استفاق فيَّ ذلك الهامس في داخلي، في يقظتي كما في رقادي، قائلاً: لكن على الرغم من أهمية الدهشة في الكتابة السردية، فهي ليست، في أي حال، غايتها الأساسية. إذ إن العمل السردي يتخطّى الدهشة والإدهاش على نحو بالغ. أقصد بذلك الأدب الكبير، وليس الأعمال التي هدفها الأقصى إرضاء القارئ، أوسع قدر ممكن من القرّاء، وتحقيق أوسع المبيعات في لعبة الترويج والتسويق. العمل السردي الكبير يتخطّى حال الإدهاش، لأنه يهدف أساساً إلى بناء عالم آخر، جديد، فريد، ذاتيّ، مستمَدّ من الأعماق، كونيّ الجوهر.

العمل السردي الكبير هو بناء كون آخر. والأدباء الكبار هم بُناة الأكوان. لا كون منها يكرّر آخر. ولا كون منها إعادة إنتاج للآخر. إنه النقيض الأمثل لإعادة إنتاج القراءات والكتابات، وإعادة توليفها بصيغ أخرى، ممّا هو شائع. وإعادة الجمع والتوليف هذه، لا أهمية لها تُذكَر، وإن حقّقت الإدهاش، أو الإبهار أحياناً، كونها تستمدّ وهجها من سواها، ولا جوهر لها في ذاتها. ونجمها العابر، إلى أفول.

كان لا بدّ لي من الإيضاح بعدها، أني لست ضد الدهشة قطّ في الكتابة السردية. لكنّي أتساءل: أي دهشة نقصد؟ إذ ثمة فوارق كبيرة بين دهشة وأخرى. هوّة عميقة تفصل مثلاً بين الدهشة في كتابة أغاتا كريستي، المرتكزة إلى الأحداث والتشويق البوليسي، والدهشة لدى كاتب مثل مرسيل بروست، نابعة من الغوص عميقاً في حالات النفس البشرية وما يتصل بها من أمكنة وأزمنة. وبين الدهشة في الكتابة السردية الساعية إلى الصدم والإثارة، وما أكثرها، والدهشة لدى روائيين مثل فلوبير وتولستوي وبوتساتي، وسواهم. والذين لا يسعون إلى الإدهاش هم المدهشون الحقيقيون.

ليس من سعي للدهشة في روايات "التربية العاطفية"، والحرب والسلم"، و"جهة سوان"، و"صحراء التتار"، والعديد سواها، مع أنها من أجمل ما كُتِب بالفرنسية والروسية والإيطالية. الدهشة الكامنة فيها هي من طبيعة جمالية وشعرية، وهي الدهشة الوحيدة التي تستحقّ الذكر. في أي حال، ليس من أدب سردي كبير ومدهش، إذا لم ينطوِ في دخائله على جوهرٍ شعري. في مقالة له في نوفمبر/تشرين الثاني 1869 حول رواية "التربية العاطفية"، يصف أميل زولا غوستاف فلوبير بـ "الروائي الشاعر". إنه لوصف لافت يصدر عن الأديب الأكثر واقعية في القرن التاسع عشر. وإنه أجمل وصف يُطلق على روائي. الدهشة؟ أجل، لكن الدهشة الجمالية والشعرية، أوّلاً. 

لم تفارقني، طوال ذلك، الدهشة التي أثارتها فيَّ منسّقة الحوار. كان كلامها بمثابة لوحة خفيّة يدور فوقها كل ما يجري، ويتوق إلى كشفها. وما إن انتهت الندوة حتى اتجهت الآنسة فاطمة إلى ركن في القاعة عادت منه برواية قدّمتها لي، عنوانها: "مخطوطات الخواجة أنطوان". وردّدت بالابتسامة نفسها: "هذه هي قصة حياتك"!

أسرعتُ إلى تفحّص صفحات الكتاب. وسرعان ما أدركت أنه ليس من رابطٍ لي به سوى اسم "أنطوان". وصاحب الاسم لا يمتّ إليّ بصلة، في أي شيء. كأنه نقيضي. رفعتُ نظري وجلتُ به في أنحاء القاعة، فلم أجد فاطمة. 

لم ألتقِ بها فيما بعد في هذه المدينة، الخارجة من حضن الصحراء إلى البحر، التي ألفتها، حيث لا قلق على وجوه الناس، ولا توتّر في سلوكهم. وهي أمور تعني الكثير للآتي من بيروت، من الشاطئ العربي المتوسطي المضطرب.

ولم تحدّ من ألفتي لهذه المدينة رحلتي الأخيرة إلى فيينّا، التي لم أكن أعرفها أيضاً، وقد اكتشفتُ فيها حاضرة إمبراطورية باهرة، تضمّ داخل جدرانها ستة قرون ونصف القرن من تاريخ ألمانيا وتاريخ أوروبا الوسطى والشرقية وحضاراتها وثقافاتها.

لكلّ مكان جوّه وروحه ومداه. تنزّهتُ، هناك، أياماً على شاطئ الدانوب، والمظلّة في يدي، وجبتُ الأمكنة والصروح، وتأمّلت في شخص الإمبراطورة أليزابيت، في مجدها وتعاستها البشريين، وفي مأساة وحيدها رودولف الذي انتحر مع حبيبته وهو في الثلاثين من العمر. وباتت أطيافهم تلازمني. وحزنت لأن الإمبراطور فرانز جوزف هدم أسوار فيينا منتصف القرن التاسع عشر، بعد أن أضحى عدوّه العثماني "رجل أوروبا المريض". أية رائعة مدهشة هي فيينّا المسوّرة؟ 

ومشيتُ، هنا، طويلاً حول البحيرة، خصوصاً في الليل العذِب، وأمضيتُ يوماً في الصحراء، والتقيت في فندق البحيرة حيث أقيم، روائية عراقية، على وجهها سِمات العرّافة، خلتني أعرفها من حياة سابقة.


المساهمون