علبة مربّى

28 أكتوبر 2014
+ الخط -
يدخل بابا البيت حاملًا في يده علبة مربّى صغيرة من تلك التي يقدّمونها للمرضى في المستشفى التي يعمل فيها. يرفعها في الهواء. 
يقول "هل ترى علبة المربّى؟". أجاوبه "لا". يقرِّب يده قليلًا من اللمّبة الوحيدة في سقف الغرفة. "والآن؟". "لا. لا أرى شيئًا"، أقول. "ربما ضوء اللمّبة ضعيف". "ربما"، أجاوبه. يدحرج بحركةٍ تدعو للإعجاب علبة المربّى بحيث تنزلُ من بين إصبعيّه وتستقرّ في راحةِ يده. يغلق راحة يده. بحيث تأخذ شكلَ مظروف. حيلةٌ قديمةٌ ابتكرها في مدرسةِ التمريض. يده الآن مظروفٌ في داخله علبة مربّى صغيرة.

يكبس زر الضوء بزاويةِ المظروف. فتنطفئ اللمّبة. ثم يكبس الزّر مجدداً، فيشتغل الضوء من جديد. يرفع بابا مجددًا علبة المربّى في الهواء. "هل هذا أفضل؟"، يسأل. "لا. لا أرى أيّة علبة مربّى من مكاني"، أقول. "اقتربْ قليلًا.أنتَ في أبعد نقطة من الغرفة"،
يقرِّب يده أكثر من اللمّبة. كما لو أنه سينقل علبة المربّى بحيلةٍ قديمةٍ أخرى إلى داخل اللمّبة. أنا فعلاً بعيدٌ عن بابا. جالسٌ على كرسيّ إلى جانب النافذة.الكرسيّ مرتفعٌ وحين أجلسُ عليه لا تطأ قدماي الأرض. 

يقول "هل ترى علبة المربّى؟". أجاوبه "لا". يقرِّب يده قليلًا من اللمّبة الوحيدة في سقف الغرفة. "والآن؟". "لا. لا أرى شيئًا"، أقول. "ربما ضوء اللمّبة ضعيف". "ربما"، أجاوبه. 

يدحرج بحركةٍ تدعو للإعجاب علبة المربّى بحيث تنزلُ من بين إصبعيّه وتستقرّ في راحةِ يده. يغلق راحة يده. بحيث تأخذ شكلَ مظروف. حيلةٌ قديمةٌ ابتكرها في مدرسةِ التمريض. يده الآن مظروفٌ في داخله علبة مربّى صغيرة.

يكبس زر الضوء بزاويةِ المظروف. فتنطفئ اللمّبة. ثم يكبس الزّر مجدداً، فيشتغل الضوء من جديد. يرفع بابا مجددًا علبة المربّى في الهواء. "هل هذا أفضل؟"، يسأل. "لا. لا أرى أيّة علبة مربّى من مكاني"، أقول. "اقتربْ قليلًا. أنتَ في أبعد نقطة من الغرفة"، يقول: يقرِّب يده أكثر من اللمّبة. كما لو أنه سينقل علبة المربّى بحيلةٍ قديمةٍ أخرى إلى داخل اللمّبة. أنا فعلاً بعيدٌ عن بابا. جالسٌ على كرسيّ إلى جانب النافذة. الكرسيّ مرتفعٌ وحين أجلسُ عليه لا تطأ قدماي الأرض. 

أنزلُ عن الكرسي وأتقدّم من بابا. أقول "بابا. هل يمكنك أن تضع علبة المربّى داخل اللمّبة؟ لو وضعتَها داخل اللمّبة فسوف أراها". يرفع يده أكثر. لكن، قبل أن أصلَ إليه، ينقطع التيّار الكهربائي. تأكل العتمة بابا.

تأكل يده وعلبة المربّى. يقول ممازِحًا "هل ترى ماذا يحدث عندما نضع علبة مربّى داخل اللمبة؟ تنفجر. والمربّى تحترق وتملأ بلونِها الأسود كلّ الغرفة". 

أبقى صامتًا، متسمرًا في مكاني. بابا أيضًا يظلّ صامتًا برهةً، قبل أن يقول "إذهبْ وانزِلْ الديجانتير". "حسناً. أنا ذاهب لأُنْزِلَ الديجانتير"، أكرّر ما قاله بابا كي يطمئنّ.

أتقدّم بخطواتٍ ثقيلة. كما لو أن سلحفاةً تتكمَّش بكلّ قدمٍ من قدميَّ. أُشَكْوِكُ العتمة بإصبعي. كأنّها حيوان سيتزكزك فيفتح لي بطنَه. أرفع قدمي الأولى وأسقِط في بطنِه السلحفاة. أرفع قدمي الثانية وأُسقِط السلحفاة الأخرى. وأهرب. 

لكنّ إصبعي الآن تصيبُ بابا. ينقز. تسقط علبة المربّى من يده. "هل سمعتَ؟ هذا صوتها. صوتُ علبة المربّى!"، يقول متحمسًا، مموِّهًا خوفه. لكنني فعلًا لا أسمع صوت علبة المربّى التي تتدحرج على الأرض قبل أن تستقرّ في نقطةٍ ما. 

بابا لا يتحرّك من مكانِه. لا يريد أن يُضَيِّع علبة المربّى. رغم أن بيتنا صغير. غرفةٌ صغيرةٌ ومطبخ وحمام. لكن بين غرفتنا الصغيرة والمطبخ والحمّام، هناك غرفةٌ أكبر، أكبر الغرف في البيت وبابا أجّرَها لأحد أقربائه الذي علمنا لاحقًا أنه يتاجرُ بالسّلاح. قريب بابا يأتي بالكثير من الأسلحةِ والذخائر. أحيانًا يقف عند باب غرفته، وبدلًا من أن يقول "صباح الخير" لبابا، يقول "ما رأيك بهذه القطعة؟ إنها مجرّد عيِّنة.

قطعة سهلة الاستعمال. من رومانيا. نيشانُها ممتاز. لماذا لا تستعيرها ليومٍ أو يومين؟ أليس لديك خلاف مع أحد؟". بابا لم يقتنِ يومًا سلاحًا. أما الخلافُ الوحيد الذي لديه، فهو مع هذا القريب الذي توقّف عن دفعِ الإيجار. لكن بابا لا يجرؤ على مطالبتِه به. بابا يعتقد أن على القريب أن يدفعَ له ليس إيجارًا وحسب، بل استثمار. 

بابا يحمل في يدِه الاخرى، اليد التي لا يرفع بها علبة مربّى صغيرة، كيساً. في الكيس الكثير من ورق الكلينكس. جواز سفره أيضًا. وبطاقة لمسؤول حزبيّ. بابا يعتبر البطاقة سلاحًا. سلاحه الوحيد. أحيانًا يترك البطاقة على اسكملةٍ قريبةٍ بحيث يراها قريبُه بوضوح. 

"بعد أن تُنزِلَ الديجانتير عُدْ من هذا الباب"، يهمس. يُدخل يده في الكيس، ويقبض على البطاقة. يستدير حوالي مائتين وسبعين درجة باتجاه باب غرفة قريبه. حيث يُسمَعُ صوت تلقيمِ أسلحةٍ وتفريغها. بابا لا يثق بالقريب. يسألني "هل تظنّ أنه في الداخل؟". علبة المربّى استقرّت عند بابه. "ربما"، أقول بصوت بالكاد يخرج من حنجرتي. أستنتج أنني أيضاً خائف. بابا وأنا، كلانا يعرف أن القريب داخل غرفته.

كان بامكان بابا أن يستدير بزاوية تسعين درجة، بدلاً من المائتين وسبعين درجة. يخيّل لي أنه أراد أن يرافقني لنُنزل الديجانتير معاً. إلا أنه فكّر بعلبة المربّى. 

علبةُ الديجانتير في المطبخ. وعليّ لأن أبلغَها أن أخرج من بابٍ فرعي في غرفتنا، باب يفضي إلى كوريدور الطابقِ الأرضي حيث نقيم. ومن كوريدور الطابق الأرضي، أدخل إلى البيت من الباب الأساسي. حيث يستقبلك المطبخ والحمام. يقول بابا "أغلقْ الباب بهدوء. لا تُطَوِّل". 

في البناية جراذين وأكثر ما تجيده هو التسلّل إلى البيوت في العتمة. أشقّ الباب قليلًا، وأخرج بشكلٍ جانبي وأنا أسدّد ركلات عند مستوى أرضي، كي أخيفَ الجراذين، إذا كان بالفعل أيّ منها الآن. وأغلق الباب بهدوء كما طلبَ بابا. كي لا ينزعجَ القريب، الذي لا نعلم إذا كان أصلًا متواجدًا بمفرده في غرفته أم معه شخصٌ آخر. 

أتلمّس حائط الكوريدور. وأصل إلى باب بيتِنا الأساسي. أُخرج علّاقة المفاتيح التي أحتفظ بها دائماً في جيبي. أفتح الباب، وأدخل البيت جانبيًا وأنا أسدّد ركلات أرضية سريعة ومتلاحقة، لكن إلى الخلف هذه المرّة. أقترب من علبة الديجانتير.

ألمس المقبض وأُنزله إلى تحت. لكن كهرباء الاشتراك لا تجيء. أنا الآن في المطبخ. أما بابا فلا يزال متسمرًا حيث هو في غرفتنا. وبيني وبين بابا غرفة القريب التي ممنوع عليّ وعلى بابا العبور بها. والقريب يستطيع أن يصل من غرفته عبر بابٍ خاصّ إلى المطبخ. 

لا أستطيع التحدّث مع بابا من هنا. إذ سيكون عليّ رفع صوتي. وهذا قد يزعج القريب الذي ربما يقوم ببعضِ الأعمال مع أحد عملائه. إمّا أن أعودَ إلى غرفتنا وأنتظر مع بابا أن تجيء كهرباء الاشتراك، أو أبقى في المطبخ مشيِّكاً الديجانتير بين خطّ الاشتراك والخطّ الأصلي، أو أذهب لتسديد فاتورةِ الاشتراك لأنّ صاحب المولِّد الكهربائي قد يكون قطع التيّار عنّا لأننا لم نسدّد الفاتورة. الوقت طبعاً غير ملائم لتسديد فاتورة الاشتراك لأنها الحادية عشرة ليلًا. لا أرى بابا من مكاني في المطبخ. كما لا يمكنه هو الآخر رؤيتي.

لا أعرف كم دقيقة تكون قد مضت قبل أن يخرج القريب من غرفته حاملًا قطعة سلاح لأنه شعر بالحَر. لأن هذا ما يفعله عندما يشعر بالحر. يحمل سلاحه ويخرج. القريب يُوشك أن يقول غاضبًا "هذه القطعة تهريب. من إسرائيل"، إلا أنه يدعس على علبة المربّى. علبة المربّى تنفزر وتبلِّل قدمه بدبق المشمش. فيطلق النار. 

بابا لم يعد يذهب إلى المستشفى للعمل. لأنك في المستشفى لا تجد ممرضين يعملون على كرسي مُدولب. لكنّه يتّفق مع أحد زملائه الذي يأتي له بعلب مربّى صغيرة مرتين كل أسبوع. رغم أنه لا يقف. ولا يستطيع حتى دفع كرسيه بيديه. إلا أنه يرفع رأسه نحو اللمّبة، عندما يراني داخلًا الغرفة. رغم أنني لم أعد طفلًا. في اللمبة أجدُ علبة مربّى. "كيف فعلتَ ذلك؟"، أسأله. إلا أن بابا، لا يجيب. لأنه كما لا يستطيع أن يمشي أو يحرّك يديه، أيضًا لا يستطيع النطق. يبتسم. أحاول أن أُطوّل علبة المربّى، لكني أدرك أن هذا مستحيل. فاللمّبة عالية. والوحيد الذي يمكنه أن يسقطها في البيت، هو قريبنا، برصاصة طبعاً من مسدسه.
المساهمون