زهرة تُونس

28 أكتوبر 2014
نضال شامخ "بماذا يحلم الشهداء"
+ الخط -
قد يجهدُ المرء وهو يحاول تذكّرَ تُونس ما قبلَ الثورة، تبدو وكأنّها غابتْ مرّة وإلى الأبد. صورتُها الأخيرة قبل الغياب مرتبطةٌ على نحوٍ لا فكاكَ منه بزين العابدين بن علي خارِجًا من القصْر ومن البلد برّمته.
وحدها الكتابةُ التُونسيّة ستحفظً لما قبل الصورة الأخيرة مكانَ تُونس في التاريخ. الكُتُبُ كلّها هي الأرشيف الذي نزوره أنّى شئنا زيارتها قبل الثورة. كلّ من كَتب يستحقّ الثناء، سواءٌ أكانتْ كتابته رديئةً أم لامعةً، فالقصدُ هو الخزنُ والحِفظ كي لا تُتركُ الذاكرة على عواهنها، وكي يكونَ للباحثين سجلات يعودون إليها. ومن نافِل القول إن الطرق الأخرى في الحفظ التي يقوم بها الإعلامي والسينمائي، تندرجُ في خانةِ الكتابة، إذ لا فكرةَ تغدو ملموسةُ ما لم يقمْ صاحبُها بكتابتِها. 
لكن تُونس الآن لا تنظرُ حقًّا إلى ما مضى، بل إلى المستقبل، خاصّة أن وصول المنصف المرزوقي إلى رئاسة الجمهورية بعد الثورة، دلّ إلى دربٍ لم يُعبّد من قبل: وصولُ المثقّف إلى الحكم. 
ولعلّ هذا، ما شجّع بعض المثقّفين التُونسيين على دخولِ المعترك السياسي. هم ثمانية ضدّ ثلاثة إن جازَ التعبير؛ ثلاثةٌ نأووا، ومالوا إلى انتقادِ دخولٍ مماثلٍ، وثمانية دخلوا بقوّة، منطلقين من فكرة لم تتعرّض لامتحانٍ جديّ تقول بتأثير المثقّف في مجتمعه. ربّما تكون هذه الأرقام خادعةً، غير معبّرة عن موقفِ المثقّفين من الانتخابات الآتية. لكن هذا الجديد في المشهد التُونسي يستحّق التأمّل. إذ إنهم على اختلاف مواقفهم، يكشفون شيئًا عن علاقة المثقّف ليس بالحكم فحسب بل وهو الأمرُ الأهمّ، بالبلد. فغالبيةُ المرشّحين في الانتخابات، يعلمون أنّه من الصعب الفوز فيها، لكنهم مع ذلك متمسّكون بالترشّح، ملتزمون بآلياته. وقد تراجعَ عددٌ منهم وانسحب، إلا أن ذلك لم يبدّد شيئًا من ذاك الدافع الذي كان وراء ترشّحهم؛ وهو علاقتهم بالمكان، بتُونس. ممّا لا شكّ فيه أنّ الشعورَ بالمواطنة يملك حصّةً لا بأسَ بها في تسيير الأمور في هذا البلدِ المتوسطيّ. ثمّة شيءٌ ما امتلكه التُونسيون بعد الثورة؛ غدا الحيّز العامّ في متناولِ اليد. وهذه فضيلةٌ لم يختبرها العَربُ تمامًا، إذ لا يُمكن فعلًا التعويل على نزول الناس إلى الساحات للقول باختبار هذه الفضيلة. ثمّةَ، في أماكن أخرى، من نزلَ إلى الساحة ومات. 
وفضلًا عن الحيّز العامّ، فعلَ التُونسيون أمرًا آخر؛ استعادوا زهرَتهم الياسمين وربطوا ثورتَهم بها. لم يكنْ لتلك الزهرة المتوسطيّة الطالِعة من أغنية "تحت الياسمينة بالليل"، إلا أن تعودَ إلى أرضِها مع ثورةٍ كبرى حاسمة، لأن شاعِرًا دمشقيًّا -من غير نزار؟ - اختلسَها بخفّة الساحِر الماهِر، وربطها بمدينتِه دمشق على نحوٍ بدا أبديًّا، في قصائدَ كثيرةٍ، ذاتِ قوافٍ عفوّيةٍ طازجة لطالما ميّزته. صحيحٌ أن للياسمينِ أرضًا في الشام كلّها، بيد أن ثمّة زهرةٌ أخرى، أكثر ارتباطًا منها بدمشق؛ هي الوردة الجوريّة الدمشقيّة المسمّاة بالسّلطانية، ذات اللون الزهري القاني، إذ إن عِطرَها آسرٌ ذباحٌ حدّ أنه سبى الفرنسيّة كوكو شانيل، فاختارته أسًّا لعطرها الشهير؛الخامس من شانيل. وقد ذكرها في غير ما قصيدة، بيد أن تلك الزهرة البيضاء التي توحي بالهشاشة واللطف، أبتْ إلا أن تكون أصفى وأكثر نقاءً في قصائِده.
لا، ليس المقامُ في هذا المقال، التغزّل بالزُهور، ولا استدعاء شيءٍ من مفردات "الربيع العَربي"، تلك الصفة التي تبدو اليوم مستهجنةً إلى حدّ كبيرٍ في غيرِ ما بلدٍ عربيّ. بيد أنّه القياس ما بين البلدين؛ تُونس وسوريا.
لم يبقَ شيءٌ ربّما، لم يفعله السوريون ليصلوا إلى حيّزٍ عامٍّ من دون قتلٍ وقنصٍ ورصاصٍ وصواريخَ وبراميلَ متفجّرة. في خضمِ صور "بلدنا الرهيب" الطالِعة من كلّ الشاشات كخبرٍ عاجِلٍ لم يعد يستوقف تقريبًا أحد - فلا حاجة لاستعجالِه- توارتْ صورةُ السوريين في الساحات، مشتبكين بالرقصِ والأغاني، راغبين بالحياة، والدخول إلى ذاك المجهولِ لديهم المُسمّى الحيّز العامّ. لو سألتَهم وقتَها لقالوا : مثل تُونس مثل تُونس ها نحن في الساحة. 
شتّان بين البلدين والزهرتين. فتلك البيضاء يظّنها الناسُ ضعيفةً، إذ رقّة بتلاتها، وتناثرها سريعًا على الأرض، يخدعان غير الخبير بها، لأنّ جذرها قويّ، وإذ قيل الياسمينُ لا يموت، فهو قولٌ صحيحٌ (ومجرّب). أمّا السلطانية، المتفتحة ملء الجمال، فتحتاج عنايةً فائقة، وحنانًا ورحمةً، كي تفيضَ بالعبير وتستمرّ بالحياة. تدافعُ عن قِصر عمرها بالأشواك، تبقى بعد ذوي الوردةِ القانية. نزلَ السوريون إلى الساحات، وفي الساحات تضرّجوا وتناثروا كوردتِهم،،، قتيلةً لا سلطانيةً.
المساهمون