نجحت الحركة الصهيونية عام 1948 في تنفيذ جزء هام من مخططاتها المتعلقة بالاستيلاء والسيطرة على مدينة القدس، حيث أنجزت في شقها الغربي عملية تهويد كاملة تم من خلالها فرض سيطرة وهوية يهودية تامة على هذا الشق من المدينة بعدما طمست أغلب المعالم الفلسطينية منها.
فعن طريق استعمال القوة والسلاح وارتكاب أفظع المجازر كما حدث في دير ياسين، تكللت بالنجاح مساعي المنظمات الصهيونية المسلحة في طرد الفلسطينيين الأصلانيين من بيوتهم وتشريدهم والاستيلاء على أراضيهم وتوطين اليهود المهاجرين فيها. تم ذلك بعد أن أضفت إسرائيل الصبغة القانونية الشرعية على عملية الاستيلاء هذه عبر مسوغات قانونية عنصرية صممت خصيصا لهذه الغايات وفي مقدمتها قانون أملاك الغائبين من عام 1951.
أسفرت النكبة عن احتلال جزئي فقط لمدينة القدس، حيث وقع الشق الشرقي للمدينة تحت السيطرة الأردنية الهاشمية إلى أن سقط تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 وجرى ضمه رسميا إلى السيادة الإسرائيلية.
وعلى الرغم من إحكام قبضتها على شقي المدينة وفرض سيطرتها الفعلية عليها، إلا إن دولة الاحتلال عجزت عن تهويد الشق الشرقي للمدينة كما حدث في الشق الغربي في أعقاب أحداث النكبة، وبقي داخل حدود "القدس الشرقية" التي ضمتها إسرائيل إلى سيادتها وفرضت عليها القانون الإسرائيلي قرابة 70000 فلسطيني برغم كل محاولات التشريد والتهجير التي ارتكبت.
منذ البداية تعاملت إسرائيل مع هذا الواقع الديموغرافي في "القدس الشرقية" على أنه عائق أمام مشروع تهويد المدينة ويجب "معالجته" فمنحت المقدسيين الذين كانوا موجودين في حدود المدينة عند إجراء التعداد السكاني صفة "المقيم الدائم"، وهي مكانة قانونية تضمن بعض الحقوق المدنية والمتمثلة بالأساس في حرية الحركة والتنقل والدخول في سوق العمل والتأمين الصحي والضمان الاجتماعي الإسرائيلي لكنها في نفس الوقت لا تضمن حقوقا سياسية متساوية لحاملها مقارنة بالمواطن الإسرائيلي.
الأخطر من ذلك هو هشاشة هذه المكانة وسهولة إلغائها عن طريق السلطات الإسرائيلية المتمثلة بوزارة الداخلية الأمر الذي يعني بالضرورة حتمية التهجير وهو ما حدث مع ما يزيد عن 20000 ألف مقدسي منذ عام 1967.
مقابل محاولات التهجير المستمرة للسكان الأصلانيين، وبهدف قلب الميزان الديموغرافي في "القدس الشرقية"، تسعى إسرائيل جاهدة إلى زيادة عدد المستوطنين اليهود في هذا الشق من المدينة. وقامت بعملية شد وتوسيع لحدود المدينة الشرقية حيث ضمت ما يزيد عن 64 كيلومترا مربعا لمساحتها الأصلية والمقتصرة على حوالي 7 كيلومترات مربعة فقط.
وداخل هذه الحدود الجديدة وعلى نحو ممنهج قامت إسرائيل بمصادرة الأراضي الفلسطينية وعليها أقامت العديد من المستوطنات بشكل جرى من خلاله ربطها مع التجمعات السكنية اليهودية في غربي القدس تمهيدا لبناء قدس يهودية موحدة. ويسكن اليوم في المستوطنات الإسرائيلية في "القدس الشرقية" ما يزيد عن ربع مليون مستوطن مقارنة بإعداد تكاد لا تذكر قبيل عام 1967.
لم تقتصر عملية تهويد "القدس الشرقية" على إقامة مستوطنات جديدة في الأراضي الفلسطينية المصادرة، فمنذ ثلاثة عقود تقريبًا تشهد الحارات والقرى الفلسطينية في "القدس الشرقية" محاولات تهويد شرسة تقوم إسرائيل من خلالها- إن كان بشكل مباشر أو عن طريق جمعيات استيطانية مسجلة تلقى الدعم الرسمي من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وبلدية القدس الاحتلالية- بالاستيلاء على بيوت مقدسيين وطرد ساكنيها وتوطين اليهود مكانهم في لب التجمعات الفلسطينية.
على وجه الخصوص تستهدف هذه الهجمات الحارات الفلسطينية في البلدة القديمة والقرى والحارات الفلسطينية المحيطة بمنطقة البلدة القديمة (وهي ما يطلق عليه إسرائيليا اسم "الحوض المقدس") مثل منطقة الشيخ جراح وقرية سلوان وغيرهما.
ومن خلال الدعاوى القانونية المطالبة بإخلاء السكان الفلسطينيين التي يتم تقديمها أمام المحاكم الإسرائيلية، تثير الجمعيات الاستيطانية ادعاءات عديدة مثل شراء العقارات من مالكيها الفلسطينيين مستغلة سوء الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الناجمة عن الاحتلال وسياساته التهجيرية في المدينة، وفي حالات أخرى تعتمد على تنفيذ عمليات فبركة وتزوير للمستندات وهو أمر ثبت في حالات عديدة برغم تقاعس الشرطة الإسرائيلية وتواطئها في كشف التزوير وتقديم من يقف وراءها للمحاكمة.
لكن الامر المثير للاهتمام بشكل خاص في هذه الدعاوى هو إثارة الجمعيات الاستيطانية مثل "إلعاد" و"عتيرت كوهانيم" ادعاء في بعض الحالات مفاده أنه يجب إخلاء الفلسطينيين من العقارات بحجة أن ملكية هذه العقارات تعود إلى اليهود منذ الحقبة العثمانية وفترة الانتداب الانجليزي أي قبل عام 1948.
أثير مثل هذا الادعاء للمرة الأولى في دعاوى إخلاء تم تقديمها من قبل جمعية استيطانية يهودية ضد فلسطينيين بخصوص عدة عقارات موجودة في حي الشيخ جراح في "القدس الشرقية" (أصبح يعرف إسرائيليا الآن بـ"شارع شمعون الصديق"). وقبلت المحكمة الإسرائيلية هذا الادعاء واعترفت بالملكية اليهودية على هذه العقارات بناء على الرواية التي تم تقديمها وهي أن اليهود تركوا هذه العقارات مرغمين نتيجة الحرب عام 1948 ونتيجة الصراع الذي كان دائرا في فلسطين في السنوات الأخيرة التي سبقت إقامة دولة إسرائيل.
وتتذرع الجمعيات الاستيطانية بنفس الادعاء الآن أمام المحاكم الإسرائيلية بخصوص العديد من العقارات التي يسكنها ما يزيد عن 700 مقدسي في حي "بطن الهوى" في قرية سلوان.
"بطن الهوى" حي سكني داخل قرية سلوان الواقعة جنوبي المسجد الأقصى خارج أسوار البلدة القديمة في مدينة القدس ويسكنها أكثر من 55000 نسمة. بعد احتلال هذه القرية عام 1967 صادرت إسرائيل ما يزيد عن 73 ألف دونم من أراضيها لغاية إقامة المستوطنات عليها.
ولم تكتف إسرائيل بذلك، فهي تحاول منذ حوالى عقدين تهويد القرية من خلال استيلاء الجمعيات الاستيطانية وعلى رأسها جمعيتا "عتيرت كوهانيم" و"العاد" على عقارات داخلها بهدف تهجير سكان القرية الأصلانيين وإحياء ما يسمى "مدينة داوود التوراتية" مكانها. وتسيطر جمعية "إلعاد" اليوم على ما لا يقل عن 35% من حي "وادي حلوة" التابع للقرية والمتاخم لأسوار البلدة القديمة جنوبا.
لا تتوانى الجمعيات الاستيطانية عن محاولة السيطرة على أي بيت أو أي أرض داخل القرية بغض النظر عن الطريقة المتبعة لحدوث ذلك. وعادة ما تتم السيطرة على العقارات الفلسطينية عن طريق تزوير المستندات وفبركتها مستغلة الضعف النسبي للمواطنين في مواجهة هذه المحاولات مقابل تفوقها السياسي والاقتصادي. وترصد هذه الجمعيات الميزانيات الهائلة في سبيل تحقيق هذه الغاية.
منذ العام 2013 تقدمت الجمعيات الاستيطانية بعشرات دعاوى الإخلاء ضد ما لا يقل عن 700 فلسطيني مركزين في حي "بطن الهوى" والذي لا تزيد مساحته عن 5 دونمات ويسكنه الفلسطينيون من أيام الانتداب الانجليزي مرورًا بالحكم الهاشمي الذي استمر حتى عام 1967 وحتى اليوم.
الادعاء الرئيسي الذي تقدمت به هذه الجمعيات أمام المحكمة هو أن ملكية الأرض في حي "بطن الهوى" تعود بالأصل إلى أبناء الطائفة اليهودية في فترة الحكم العثماني وفق مستندات تركية يعود تاريخها إلى ما قبل عشرات السنين.
تدعي هذه الجمعيات أن وجود الفلسطينيين في هذه العقارات غير قانوني وبغير إذن المالكين ولذلك يجب إخلاؤهم. وتقدمت الجمعيات الاستيطانية بحجة وقفية يعود تاريخها للحقبة العثمانية حيث سمت هذه الوقفية الحاخامين الرئيسيين في مدينة القدس لإدارة الوقف لمصلحة أبناء الطائفة اليهودية. وفي عام 2001 حصلت جمعية استيطانية على موافقة الحاخامين في القدس لإدارة هذه الوقفية لما تراه في مصلحة العقارات الموقوفة، وحصلت على قرار من المحكمة الإسرائيلية يخولها بإدارته.
بعد ذلك حصلت على "شهادة تحرير" من "القيم" على أملاك الغائبين بموجبها أخرج "القيم" العقارات هذه من إدارته بعدما ثبت أمامه أن ملكيتها يهودية وحولها لإدارة الجمعية الاستيطانية بناء على الوقفية العثمانية وبعد تولية الجمعية إدارة أمور الوقف مكان الحاخامين الرئيسيين لمدينة القدس وفق قرار المحكمة المركزية في مدينة القدس.
مهدت هذه الخطوات الطريق أمام الجمعية لتقديم العديد من قضايا الإخلاء ضد السكان في حي "بطن الهوى" بحجة الملكية اليهودية التاريخية للحي. ومن دون الخوض في الحيثيات القانونية الدقيقة، يمكن القول إنه لولا تعاون المؤسسات الحكومية الإسرائيلية وعلى رأسها المحاكم الإسرائيلية مع الجمعيات الاستيطانية ما كان بالإمكان حصولها على المستندات هذه والتي أهلتها لتقديم الدعاوى. فأولا قرار تعيين الجمعية لإدارة الوقفية قرار مشبوه كون الجهة التي تقدمت به هي الجمعية الاستيطانية نفسها بعد حصولها على موافقة مكتوبة من الحاخامين يظهرون فيها عدم ممانعتهم لنقل الإدارة إلى الجمعية لانشغالاتهم العديدة برغم أن هذا الأمر مناف لشروط الوقفية ذاتها التي يعتمدون عليها.
وثانيا، وهو الأهم، تعاون "القيم على أملاك الغائبين" في "تحرير" العقارات في حي "بطن الهوى" من إدارته وتحويلها للجمعية اعتمادا على الوقفية المذكورة والتي تبين أن الملكية تعود لليهود وليس لفلسطينيين الأمر الذي يخرج العقار من صلاحية "القيم" الذي يعمل على إدارة أملاك "الغائبين" الفلسطينيين وفق "قانون أملاك الغائبين".
والأخطر من ذلك هو ربط العقارات في "بطن الهوى" بالتحديد مع الوقفية المذكورة وهو أمر نادرا ما يحدث حيث لا يوجد في منطقة القدس تسجيل للأراضي لعدم استكمال عملية تسوية الأراضي التي بدأت في عهد الانتداب.
ونتيجة لعدم تسجيل الأراضي فإن الفلسطينيين يواجهون معضلة حقيقية في تثبيت حقوقهم في عقاراتهم حيث يثار دائما الادعاء بعدم توافق الحدود الآنية مع الحدود المذكورة في المستندات التاريخية الموجودة بحوزتهم. وبشكل غير مفاجئ عندما يتعلق الأمر بمطالبة من قبل يهود أو جمعية يهودية فإن المهمة تصبح سهلة ويتم الاعتراف بالمستندات وتثبيت الحدود وفق الطلب.
الأمر الآخر المهم ذكره هو أن إسرائيل ترفض الاعتراف بإعادة الممتلكات والعقارات الفلسطينية والتي تعتبرها "أملاك غائبين" بالرغم من وجود مالكيها في مدينة القدس وتحت السيطرة الإسرائيلية وعلى بعد أمتار منها أحيانا. ويرفض "حارس أملاك الغائبين" بناء على القانون تحرير هذه الممتلكات بشكل قاطع الأمر وبذا يفضح مدى التمييز العنصري ضد الفلسطينيين حتى في تطبيق القانون ذاته.
إن كل ما تقدّم يكشف جانبًا واحدًا من معاناة الفلسطينيين في القدس تحت وطأة استمرار مخطط نهب أملاكهم وتهويد حيّزهم. وهو مخطط بدأ تنفيذه منذ نكبة 1948 واستمر بعد 1967 وما يزال يتصاعد حتى يومنا هذا.
(باحث وخبير قانوني/ القدس)