مسارات المقاومة الشعبية.. رؤية نقدية

31 يناير 2016
جباليا/ غزة (تصوير: عوض عوض)
+ الخط -

أشارت الكثير من الأبحاث إلى هامشية الفلسطينيين في الداخل في خطاب الحركة الوطنية الفلسطينية، وخاصة في مرحلة ما بعد النكبة الفلسطينية، حيث تبلورت الحركة الوطنية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني وحتى الهوية الوطنية الفلسطينية من دون مشاركة وتأثير كبيرين للفلسطينيين في "إسرائيل" - أي في فلسطين المحتلة عام 1948.

وظهرت قطيعة في التصورات السياسية والأدوات النضالية وحتى في مفهوم الهوية الوطنية بين الفلسطينيين في الداخل وبين باقي فئات الشعب الفلسطيني.

غير أن فترة ما بعد أوسلو شهدت وعياً أكبر في صفوف التيارات السياسية- الأيديولوجية لأهمية دورها في المشروع الوطني كرد فعل على تهميشها في المفاوضات، وعلى تهميش قضاياها التي هي جزء من القضية الفلسطينية.

كما أنتجت فترة ما بعد أوسلو الخطاب النقيض للدولة اليهودية كخطاب سياسي نضالي يتجاوز الكتابات الأكاديمية النظرية حول النظم السياسية، إلى خطاب يضع جوهر الدولة كمتغير مركزي في تحديد مكانة فلسطينيي الداخل القومية والمدنية.

إذن، أنتجت فترة ما بعد أوسلو مسارين يبدوان متناقضين للوهلة الأولى، إلا إنهما متكاملان في جوهرهما: ازدياد أهمية تعزيز دور الفلسطينيين في الداخل في المشروع الوطني الفلسطيني من جهة، وتعزيز خطاب المواطنة والقوة الكامنة فيها من جهة ثانية.

تعزّزت أهمية الفلسطينيين في الداخل في المسألة الوطنية كحالة تتجاوز التضامن والمساعدات الإنسانية، كما تجلّت في الانتفاضة الأولى، إلى محاولة التأثير المباشر في المشروع الوطني.

أشارت الكثير من الأبحاث إلى هامشية الفلسطينيين في الداخل في خطاب الحركة الوطنية الفلسطينية، وخاصة في مرحلة ما بعد النكبة الفلسطينية، حيث تبلورت الحركة الوطنية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني وحتى الهوية الوطنية الفلسطينية من دون مشاركة وتأثير كبيرين للفلسطينيين في "إسرائيل" - أي في فلسطين المحتلة عام 1948.

وظهرت قطيعة في التصورات السياسية والأدوات النضالية وحتى في مفهوم الهوية الوطنية بين الفلسطينيين في الداخل وبين باقي فئات الشعب الفلسطيني.

غير أن فترة ما بعد أوسلو شهدت وعياً أكبر في صفوف التيارات السياسية- الأيديولوجية لأهمية دورها في المشروع الوطني كرد فعل على تهميشها في المفاوضات، وعلى تهميش قضاياها التي هي جزء من القضية الفلسطينية.

كما أنتجت فترة ما بعد أوسلو الخطاب النقيض للدولة اليهودية كخطاب سياسي نضالي يتجاوز الكتابات الأكاديمية النظرية حول النظم السياسية، إلى خطاب يضع جوهر الدولة كمتغير مركزي في تحديد مكانة فلسطينيي الداخل القومية والمدنية.

إذن، أنتجت فترة ما بعد أوسلو مسارين يبدوان متناقضين للوهلة الأولى، إلا إنهما متكاملان في جوهرهما: ازدياد أهمية تعزيز دور الفلسطينيين في الداخل في المشروع الوطني الفلسطيني من جهة، وتعزيز خطاب المواطنة والقوة الكامنة فيها من جهة ثانية.

تعزّزت أهمية الفلسطينيين في الداخل في المسألة الوطنية كحالة تتجاوز التضامن والمساعدات الإنسانية، كما تجلّت في الانتفاضة الأولى، إلى محاولة التأثير المباشر في المشروع الوطني.

وظهر ذلك في تعبيرات كثيرة، فمثلاً بدأت الحركة الإسلامية مشروعها للدفاع عن المسجد الأقصى المبارك وتعزيز صمود أهل القدس، وقبل ذلك برز الدور الذي لعبته القائمتان العربيتان في "الكنيست" (الجبهة الديمقراطية والحزب الديمقراطي العربي) في دعم حكومة رابين من الخارج، وأطلق عليهما الكتلة المانعة، من أجل المضي في تنفيذ اتفاق أوسلو.

ولعب "التجمع الوطني الديمقراطي" بقيادة عزمي بشارة دوراً كبيراً في نقده المنهجي لاتفاق أوسلو، متواصلاً في ذلك مع تيارات فلسطينية عارضت اتفاق أوسلو، وكان له دوره الريادي في تحويل الخطاب النقيض للدولة اليهودية من التداول النظري في الأروقة الأكاديمية إلى خطاب سياسي حزبي يُبيّن التناقض بين طابع الدولة وبين مكانة الفلسطينيين القومية والمدنية، والذي ألقى بظلاله لاحقاً على الخطاب السياسي في الحركة الوطنية الفلسطينية، ورابطاً بشكل جوهري العلاقة بين مشروع دولة المواطنين وحل القضية الوطنية.

إذا كانت المقاومة في طابعها الشعبي تبلورت في إطار ولادة ديناميات وتطوير أدوات جديدة لحركات التحرر الوطني تكون متلائمة مع الواقع، وكمحاولة لسلب القوة الكولونيالية إمكان الاستفادة من الذرائع؛ إلا أنها في الحالة الفلسطينية، وخصوصاً خلال فترة الرئاسة الحالية لمحمود عبّاس، برزت كنهج فردي أكثر منه كإجماع وطني وشعبي حقيقي، وذلك على النقيض من الهبة الشعبية الحالية التي بدأت عام 2015، والتي عكست نضوجاً ووعياً مجتمعياً ووطنياً.

وانعكس هذا خصوصاً في سعي السلطة الفلسطينية إلى السيطرة على الحراك الشعبي سنة 2012، والمتمثل في القرى التي تمّ إنشاؤها على الأراضي المصادرة، حتى بدت المقاومة الشعبية (السلمية) كمفهوم هلامي يتسع ويضيق وفق الاعتبارات السياسية الرسمية والشعبية.

تشير مجمل أدبيات المقاومة إلى مفهوم المقاومة الشعبية كإطار يشمل العصيان المدني، والاحتجاجات الجماهيرية، وإقامة قرى مثل باب الشمس (2012) وقرية الكرامة وقرية كنعان في الخليل وقرية الصمود والتحدي في جنين وقرية عين حجلة، والمقاطعة الاقتصادية والأكاديمية، والمسيرات الأسبوعية واليومية، والمظاهرات، وحركة التضامن الدولية.

كما أن ممارسات القوة الكولونيالية تدفع باتجاه ابتكار أشكال جديدة للمقاومة بموازاة تأثير تلك السياسات. وتأتي مبررات مقاومة كهذه كرد فعل على ما تمتلكه القوة الاستعمارية من سلطة وقوة عسكرية وهيمنة.

على المستوى الشعبي، اتجه المجتمع الفلسطيني أكثر فأكثر إلى النأي بنفسه عن الانقسامات الحزبية الفلسطينية والحسابات الضيقة، وبالتالي الخروج من مربع الصراع الحزبي غير المفيد، وتمرد على السياسات الإسرائيلية في القدس، وأنتج الانتفاضة والهبة الشعبية الحالية.

لكن المبادرات الشعبية شهدت في ما بعد حالة من التخبط مع تزايد عمليات مختلف الأطراف لتوظيف المقاومة والهبة الشعبية لصالح سياساتها وتوجهاتها.

وعلى خلفية الجمود السياسي العام، مثلت الهبة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2015 كمقاومة شعبية وكأداة تحريكية ضاغطة، قبولاً ضمنياً في أطر حركة التحرر الوطني، والمقاومة الفلسطينية كذلك، في ما يتعلق بالحفاظ على دينامياتها وأدواتها في مقاومة القوة المحتلة الإسرائيلية، وذلك بمساعدة غير مباشرة من الظروف الذاتية والموضوعية، والتي مرت بها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، حيث الحرب الإسرائيلية على القطاع الذي ما زال يعاني من حجم الدمار وتأخر عملية الإعمار فيه، إضافة للسياسات الأمنية للسلطة الفلسطينية في الضفة، والتي حجّمت المقاومة وأعاقت تطورها الطبيعي، فضلاً عن السياسة المصرية تجاه القطاع.

هذه العناصر مجتمعة قادت المقاومة إلى أن تكون أكثر إيماناً بالهبة الشعبية حيث احتضنتها سياسياً وإعلامياً بشكل واضح، على الرغم من حالة التصارع الخفي أو غير المعلن على التحكم بوتيرتها وأدائها الميداني بين المقاومة الفلسطينية والسلطة الفلسطينية وبقية أقطاب حركة التحرر الوطني الفلسطينية.

بقدر ما كان لهذا النهج من داعمين رسميين وشعبيين ودوليين منذ سنة 2012 ارتكزوا على اللحظة التاريخية والسياسية العربية والمحلية والدولية التي تشكل دافعا قويا له، إلا أنه يواجه تحديات جسيمة، كما أنه لم يسلم من انتقادات جوهرية، أهمها: ضعف الالتفاف الجماهيري والقاعدة الشعبية والمجتمعية له.

فالمقاومة الشعبية بدأت بمبادرات شبابية وفردية أحياناً، وهؤلاء الأفراد تحكمهم عدة اعتبارات أساسية، مثل حسابات التكلفة، والخطورة، والمنافع الشخصية، والحسابات الحزبية أو الخلفيات السياسية التي أتوا منها.

وبالتالي للوصول إلى حالة عامة يجب تحويل العملية إلى واجب اجتماعي، بمعنى قدرة المجتمع على احتضان المقاومة الشعبية الشاملة والمشاركة فيها بفعالية مرتبطة بقيم عامة في المجتمع وتصيب الجوهر الاجتماعي المبني على العواطف والحوافز المعنوية العامة، حتى لا تنبني فقط على توجهات فردية، ما يبرز الحاجة إلى تكثيف الشعور الوطني والمجتمعي، وهذا لا يتأتى إلا بربط المقاومة الشعبية السلمية بمسار سياسي وتحرر وطني، بعيداً عن المناكفات الحزبية، وباستراتيجية محفزة لمختلف شرائح المجتمع، حتى تضمن أكبر درجة من الانخراط الجماهيري.

وعملية التكتيل للجهود المجتمعية تعني تشغيلها بكيفية شمولية تتلاءم ومنطق الاستعمار الشمولي لتستطيع مقاطعته ومن ثم نفيَه. وهذا يتطلب بناء وعي سياسي جماعي يتجاوز حدود الجغرافيا الكولونيالية، والتشتت الديموغرافي كنتيجة له. فالمقاومة الشعبية التي لا تستهدف أصول وأسس المشروع الاستعماري، ليست أكثر من إيجاد حالة تعايش مع منتجات المشروع نفسه.

وهذه دعوة صريحة للخروج من مأزق نصف دولة، ونصف حركة تحرر وطني، لأن هذه الحالة أفضت إلى صراع بين السلطة الفلسطينية وحركة التحرر الوطني، مما أثر سلباً على رؤية الاندماج في قيادة وطنية موحدة، والذي جعل القيادة السياسية متخوفة من فقدان ما يسمى بالمكتسبات الوطنية.

كما أن طريقة احتضان السلطة والقيادة السياسية الفلسطينية لمشروع الهبة والمقاومة الشعبية السلمية برمتها، أوقعتها في فخّ الاستغلال السياسي، والتشويه المجتمعي، وخصوصاً أن تبني السلطة لهذا النهج جاء بعد أن اتخذت القيادة السياسية منحى آخر في التعاطي مع القوة الاستعمارية، أساسه أن تستبدل طريق الكفاح والمقاومة بمسار سلمي تفاوضي، في سبيل تحقيق الاستقلال، وهذا أثار حفيظة شريحة كبيرة من الشعب الفلسطيني، والأفراد المشاركين في المقاومة الشعبية بخلفية فصائلية، مما أوجد انقساماً وصراعاً داخلياً في لجان المقاومة؛ فلم تكن هذه اللجان كما أراد لها مؤسسوها، وإنما ترجمت واستغلت من قبل السلطة الفلسطينية لتحسين صورتها، وعدم إيجاد حالة فراغ تتيح الفرصة لولادة مقاومة مسلحة إذا ما فشلت المفاوضات.

تريد السلطة من المقاومة الشعبية في كافة أشكالها وأوقاتها أن تكون فقط أداة (كنترول) لمنع تفجُّر الوضع. وهذا التوظيف الرسمي، بالرغم من حالة الإحباط والروتينية التي كونها لدى المجتمع، شوّه الوعي السياسي والوطني حيال علاقة السلطة بالثورة والمقاومة وبعموم عملية التحرر الوطني، وهذا ما كونته السلطة، مما جعل المقاومة الشعبية حبيسة الإرادات السياسية لكل المنتفعين.

ووجد الأمر صداه في العديد من الأدبيات، مثل تصريحات كبير مسؤولي ملف المفاوضات بأن الشباب الفلسطيني يسعى لحماية "حلّ الدولتين"، فضلاً عن قرار السلطة بإنشاء مجلس محلي باسم "باب الشمس". وتشير عدة أبحاث إلى أن السلطة تسعى للسيطرة على قرار المقاومة الشعبية، لجعلها مبرمجة وفق إرادة القيادة السياسية.

والرسالة التي تحملها المقاومة الشعبية ليست كما تراها السلطة، فالمقاومة الشعبية نوع من المقاومة لا ينزع الشرعية عن أي شكل مقاوم آخر وإنما على العكس يمكن أن يكون مكملاً. لكن السلطة تسعى لنزع شرعية كل شكل يختلف مع نهجها التفاوضي.

وخشية من الانفجار الحتمي لفشل ذلك المسار مع انسداد الأفق السياسي الفلسطيني والدولي حيال التسوية، ومع إعلان الإخفاق وفشل المفاوضات الثلاثية (الفلسطينية – الأميركية – الإسرائيلية) حول قضايا الوضع النهائي لكيان أو دولة قابلة للحياة ومنزوعة السلاح، تتعالى أصوات القيادة الرسمية الفلسطينية بالدعوة لانتهاج المقاومة الشعبية (السلمية) كإطار وأداة سلمية للكشف عن الاعتداءات الإسرائيلية وفضحها كمستوطنين وجيش وإحراجهم على المسرح الدولي.

كما أنها محاولة من القيادة الفلسطينية "لحفظ ماء وجهها" أمام الفلسطينيين الذين سئموا التفاوض الذي مرت عليه أجيال فلسطينية عديدة، دون إنجاز سياسي حقيقي، ولم يطبق منه إلا الشق الأمني والعسكري وبما يخدم مصالح الأقوى في العملية. ناهيك عن أن الدعوة للمقاومة الشعبية هي منع انفجار الوضع الداخلي عسكرياً وتوجيهه نحو العمل السلمي للتفريغ.

ويأتي كل ذلك من باب الحفاظ على المكتسبات الوطنية التي تراها القيادة إبان حكومة سلام فياض، ومحاولات الإصلاح السياسي والاقتصادي، وصيانة المرافق العامة في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967 تحت مسمى وثيقة إنهاء الاحتلال وبناء الدولة، والتعاطف العالمي مع تلك الجهود.

وفي هذا الإطار علينا ألا ننسى الاعتبارات التالية: حالة الفجوة في القوة بين المحتل والخاضع للاحتلال كانت قانوناً طبيعياً وليس استثناءً، فلا يوجد على الأرض حركة تحرر امتلكت المستوى نفسه من القوة الذي بحوزة العدو. ومن الطبيعي أن تسعى الحركات التحررية إلى امتلاك ما هو ممكن من أدوات وأساليب للمواجهة مع العدو، حتى حالة إيجاد توازن الرعب بين المتنازعين.

إن عدم مواتاة الفرصة للكفاح المسلح لا يعني إنكاره بالضرورة كأسلوب للمواجهة مع الاحتلال، فالنهج الدبلوماسي في الأمم المتحدة والاعتراف بالدولة الفلسطينية كان خطوة بارزة إلى جانب مقاطعة "إسرائيل" أكاديمياً واقتصادياً، لكن ذلك يجب ألا يوصل إلى العالم رسالة بأن المقاومة المسلحة محرمة، ولا بدّ من إنهاء حالة التخوف الفلسطيني الرسمي من هذه المقاومة ورهن وقفها أو استمرارها بالأداء والتقدم في العملية السياسية والمفاوضات. إن حاجة العالم إلى الاستقرار في المنطقة تجعل من المقاومة المسلحة أداة حاضرة وقوية ومؤثرة.


السياق الإقليمي.. الارتباط الوطني والتبعية

لا شك أن التبعية الإقليمية تؤثر بدرجات متفاوتة إيجاباً وسلباً على عملية تحديد سياسة واستراتيجية موحدة، حتى في إطار التوجهات والأطر المسلحة (المقاومة)، ما يؤدي إلى غياب رؤية ورواية موحدة للصراع مع القوة المحتلة؛ وما يحدث ليس أكثر من تنسيق تكتيكي سواء داخل أطر المقاومة أم بين المقاومة والسلطة الفلسطينية، بما لا ينعكس سلباً على العلاقات الثنائية للمقاومة مع دول وقوى إقليمية عربية وغير عربية.

وهناك دائماً دوامة البحث عن الدولة الوطنية في مواجهة البحث عن المصالح الذاتية لكل فصيل وتوجه في الساحة الفلسطينية، وجدلية من يُجيِّر ويطوِّع من لمصلحته؟ كما أن المطالب والحوارات الاستراتيجية التي تجريها السلطة الفلسطينية مع المحيط الإقليمي وتطالب فيها الدول بضرورة الضغط على المسار المقاوم في فلسطين، لحثه ودفعه باتجاه العملية السياسية والقبول بالمفاوضات وبقواعد اللعبة السياسية برمتها، توضح مدى وجود درجة كبيرة من التأثر بالخارج بالنسبة للمقاومة الفلسطينية في قبولها أو رفضها لأي تهدئة أو تصعيد في العمليات المسلحة.

إن تأثير القوى الإقليمية فكرياً وأيديولوجياً وفي الممارسة لحركات المقاومة سينسحب على طبيعة وتكوين الحقل أو النظام السياسي المستقبلي. وفي المشهد العام، يجب التأكيد على نقاط استراتيجية، لأن علاقة هذه القوى بالسياسات الدولية والإقليمية الأخرى، ستبقى ذات أهمية، على الرغم من إدراك أن النفوذ ذو درجات متفاوتة في مرحلة الثورة والدولة واستقرارها، وهذا ما تسعى إليه القوى.

تقول فاطمة الصمادي حول السياسة الإيرانية، إن إيران "لا تنكر سعيها الطموح للحصول على إقرار عالمي وإقليمي بشرعية دورها في المنطقة باعتبارها لاعباً رئيسياً لا يمكن تجاوزه... ويتخذ ذلك أشكالاً عدة أكثرها وضوحاً تقديم الدعم لحركات المقاومة"، فهي (إيران) تريد الانتقال بنفسها من محور الشر إلى محور الاستقرار.

كما أن تركيا تمتاز بنظام مزدوج من العلاقات الثنائية مع المقاومة و"إسرائيل"، كمدخل لدور سياسي إقليمي، يتم اللجوء إليه في تسويات الأمور العالقة على ضوء أحداث غزة سنة 2009. وهذا في الوقت الذي عادت فيه تركيا كدولة لها وزنها الدبلوماسي في العالم العربي.

ويؤكد سعد حقي كذلك "أن الدور الإيراني في دعم الحركات الإسلامية داخل فلسطين مثَّل إحدى أوراق منظمة التحرير في تفاوضها مع إسرائيل التي تعمل على توظيف هذه المنظمة واستخدامها كجدار ضدّ العمليات الفدائية التي تقوم بها حركتا حماس والجهاد الإسلامي".

تلك العلاقات الجدلية بالذات في السياق التحرري العام، تجعل الكل يستخدم الكل في إطار ما يحدد لنفسه من تكتيكات واستراتيجيات بحجج الأمن القومي، والشك المتبادل. ولا شك في أن تراجع السياسة العربية عن تفاعلها القوي مع المسألة الفلسطينية، هو أكبر مشجع لولوج لاعبين إقليميين جدد.

وأبرز توضيح لمسألة الوطنية والإقليمية في توجهات المقاومة الفلسطينية، جاء في أحد خطابات خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس، بقوله إن "مبدأ القرار الوطني المستقل يقوم على عدم التبعية والارتهان لأي دولة أو طرف... ولكن ذلك لا يعني ولا يمكن أن نقبله في إطار حصر القضية الفلسطينية في الشعب الفلسطيني وشطب وإضعاف الدور العربي والإسلامي".

إن فحص وتدقيق هكذا توجه بانتظار ماهية الكيان الفلسطيني المستقبلي يؤكد قدرة المستوى السياسي الذي يوظف المقاومة الفلسطينية على بناء مواقف مستقلة ومنحازة للأجندة الوطنية والشعبية، وهذا ما حدث في المسألة السورية، حيث استطاع العمود الفقري للمقاومة مناهضة المواقف السورية الرسمية (النظام الحاكم) والإيرانية، مما أغضب الأخيرة.

يُتَطلب من المقاومة الفلسطينية أن تحافظ دوماً على كونها حركة تحرر وطني، أو جزءاً من منظومة تحرر، أكثر من كونها حركة دينية ذات أجندة إقليمية، لما في ذلك من دور مهم في وضع المقاومة في سياقها الدولي، كون المقاومة وسيلة لتحقيق أهداف وطنية مشروعة، وهذا يحميها من مغبة الوقوع في الصورة التي تحاول "إسرائيل" رسمها للمقاومة في أنها مرتبطة بقوى إقليمية "تهدف إلى إزالة إسرائيل من الوجود"، و"ترفض الشرعية الدولية والمفاوضات كوسيلة".

فـ"إسرائيل" نجحت إلى حد لا يستهان به في إقناع أطراف دولية مؤثرة أن المقاومة الفلسطينية ليست تحررية وإنما هي وسيلة إقليمية ضدّ "إسرائيل". وهذه الصورة بدت واضحة في "مؤتمر هرتسليا" الصهيوني، بعنوان "ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي" في الفترة ما بين سنتي 2000–2001. وبالتالي مطلوب من المقاومة أن تنأى بنفسها عن أن تكون مجرد أداة بيد قوى إقليمية، بقدر ما عليها أن تكون فلسطينية.


(باحث فلسطيني/ غزة)

اقرأ أيضاً: نحو عقد وطني اجتماعي جديد

دلالات