كلام من أرض اللجوء: جيل ينظر إلى التحرير

16 نوفمبر 2015
كوبنهاغن (العربي الجديد)
+ الخط -

في الحرب العدوانية على غزة، صيف العام الماضي، شهدت ساحات أوروبية عدة تحركات شعبية فلسطينية وغربية تضامنا مع أهل غزة، وكان طه ومحمد ورجا وعيسى وعبيدة وهدى قد اتفقوا حين توقف إطلاق النار على أن "الأمر لن يتوقف عند ذلك النشاط المترافق مع أعداء دولة الاحتلال"، أي أن نشاط الشباب الفلسطيني في أوروبا لن يكون موسميا، ولا حتى مرتبطا بحدث يثير مشاعر لحظية على وقع خلفية صور القتل والعدوان.

في شهر أيار/ مايو 2015 كان ثمة ما يثير ونحن نعد تقريرا عن أبناء الجيل الثالث، الذين يتدربون على الدبكة الفلسطينية في أقصى الشمال الأوروبي، فهؤلاء قد يكونون فلسطينيين سويديين ودنماركيين ونرويجيين، ويتحلقون حول طاولات في الرابطة الفلسطينية ليرسموا فلسطين التي لم يروها سوى في الأعراس الفلسطينية وأحاديث أهلهم الذين ولدوا أيضا في المهاجر، ومن جداتهم وهن يعدن عليهم لماذا يصنعن كعك العيد وما معنى حيفا ويافا... إلخ.

سألنا يومها: كيف يعرف محمد غزة؟ كان الجواب أبسط مما اعتقدنا: الأب من غزة... أصله من يافا... زوجته من مخيم في لبنان ... الأب ناشط ومنخرط في أي نشاط ثقافي واجتماعي وسياسي متعلق بفلسطين وغيرها، لكن أولاً بكل مناسبة وطنية وأهمها يوم الأرض التي تكون مناسبة لالتقاء الكثير من أبناء الجاليات مع ضيف أو ضيفة من داخل فلسطين.


جيل آخر
بعيدا عن السياسة، وإن طرقنا أوانيها كمدخل لفهم الواقع الاغترابي المرتبط بفلسطين، لا ينزعج عضو برلمان أوروبي في مكتبه داخل أروقة برلمان الدنمارك من القول: "أنا ممنوع من دخول فلسطين بقرار احتلالي. إنها ضريبة وقوفي مع الحق، مثلما وقف أبواي اليساريان وبيئتي كلها مع حقوق الفلسطينيين، وقبل ذلك في وجه محاولة احتلال فيتنام والتدخل في أميركا اللاتينية". إنه نيكولاي فيلموسن، وهو مجرد مثل على عشرات من هؤلاء الغربيين.

لكن ماذا عن الشباب/ الشابات فلسطينيي الأصل؟ مسح سريع سيكشف أن عيسى الناشط في تنظيم مؤتمر شباب فلسطينيي أوروبا الأول في تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم والذي شارك فيه المئات منهم من إيطاليا جنوبا حتى السويد شمالا، مثله مثل المئات غيره من الشباب، بعضهم ممنوع من دخول فلسطين بعد أن فتش الاحتلال نشاطهم وما تحتويه صفحات التواصل الاجتماعي.

هدى شابة في بداية العشرينات، مثل البقية من الصبايا والشباب، تخوض قبل الانتفاضة ومنذ حرب غزة مع مجموعة عمل شبابي تحت مسمى "اليد المساعدة" كترجمة لاسم منظمتها المسجلة رسميا في الدنمارك، يجمعون ما يستطيعون لزرع بسمة على وجوه أطفال المخيمات (في الضفة ولبنان وغزة) مع متضامنين أجانب.

فرقة تراث شعبي باسم "جفرا" تقيم أسبوعا ثقافيا تتخلله دعوة شبان وصبايا من حيفا والناصرة للعزف المشترك أمام جمهور دنماركي يُلقى فيه شعر فلسطيني من كندا يبكي الجمهور الأجنبي.

أيام سينما فلسطينية يقف خلفها شبان وشابات بأفلام تحاكي واقع الفلسطينيين تحت الاحتلال. لجان مقاطعة ينشط فيها ذلك الجيل الذي نتحدث عنه، وسلاسل بشرية تحيط بالمتاجر التي تبيع بضائع إسرائيلية، ومظاهرات منذ اليوم الأول لبدء الإعدامات اليومية، وخصوصا في منتصف الشهر الماضي.

تلك لجان قائمة منذ سنوات مع لجان التضامن الدولية. وتقول المتحدثة الرسمية باسمها إيرينا كلاوسن، "اليسارية العتيقة"، إنها كانت ترغب منذ سنوات "بأن تتبنى فصائل م. ت. ف المقاطعة الشاملة كوننا في اللجان كنّا ندرك بأننا أمام دولة أبرتهايد... وها نحن بالفعل أمام ما توقعناه حقاً... من كان عمره/ عمرها 10 سنوات من فلسطينيي الشمال الأوروبي تراهم اليوم الأنشط معنا، على عكس جيل المنظمات التي تحسب حسابات سياسية لتوجهات تنظيماتها".

إذا ما أخذنا بالأرقام والتاريخ القريب، فإن معظم من يُطلق عليهم "مغتربون" فلسطينيون، هم في الواقع يرفضون هذه التسمية، ويصرّون برغم حمل جنسيات غربية على أنهم جزء من القضية الوطنية وعلى رأسها حق العودة.

علاقة السياسة والتاريخ بكل النشاط الشبابي الفلسطيني، على الأقل في دول الشمال، تتكشف بقول الشاب الفلسطيني اللبناني "راجي" وأمام جمهور دنماركي وفلسطيني وعربي في مظاهرة دعم القدس وهبتها: "نحن جيل ولدنا بعد 24 سنة من وعود أوسلو، غيرنا كان في العاشرة والخامسة عشرة والعشرين، انظروا يا أصدقاء ماذا حققت لنا أوسلو سوى أنها قدمت وهما كبيرا وكذبة اعتبار الفلسطينيين قد دجنوا وقبلوا واقع حرق زيتونهم واحتلال المستوطنين لمزيد من الأرض وتهجير شعبنا من القدس. هذا واقع يعيشه الشباب والشابات من أخوتنا داخل فلسطين، مثلما نعيشه نحن في الخارج".

أميرة، التي ولدت قبل 3 سنوات من أوسلو، من أم دنماركية، تخوض منذ سنوات نقاشات بالإنكليزية في مواقع عدة، إخبارية وحوارية، ترى أن هبة الأقصى (وتسميها الانتفاضة الثالثة) ومشاركة الفلسطينيين في الخارج منذ اللحظة الأولى دليل على فشل ذريع لنظرية النسيان. أميرة كشابة في منتصف العشرينات تقول: "مأساة حقيقية أن ترى اختلاف السياسة داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، رسميا في الفصائل، وكلما قدم الشعب الفلسطيني فرصة للاستفادة والتوحد لا يستغلها هؤلاء".

لكن كيف لشباب وشابات ولدوا بعد أوسلو وقبلها بقليل تراهم اليوم يراسلون، بل يستدعون أعضاء البرلمانات الذين يصوتون لهم، ليأخذوا موقفا واضحا وضاغطا على سياسة بلادهم التي ولدوا فيها للوقوف في وجه دولة الاحتلال وممارساتها؟

قد لا يكون سرا إن قلنا إن هذا الأمر ناجم عن تراكم نشاط الجيل الأول في المجتمعات الغربية، بمهرجانات جامعة كذكرى النكبة ويوم الأرض، وحضور ضيوف من فلسطين سنة بعد أخرى، إضافة إلى وصف الأصدقاء الغربيين الفلسطينيين بأنهم "شعب لا يعرف الاستسلام ومتمرد دائم على واقعه غير قابل للخنوع"، ناهيك عما شكلته وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد كمنصة بلغات عدة، تمتد من أميركا اللاتينية، حتى الدول الاسكندنافية، مع توجه الجيل الجديد نحو التعليم وإظهار فلسطينيته بشكلها الآخر، غير ما رغب بعضهم به من استسلام للأمر الواقع فضلا عن كثير من عوامل الهوية.

هذه الأخيرة تلعب دورا كبيرا في أن يقول شاب لبناني في عمر الشباب الفلسطيني الذين ترعرعوا معهم في الغربة: "قضيتنا يجب أن نقدمها بطريقة غير تقليدية ونستفيد من كل الظروف المتاحة لنا". هكذا يصف محمد حوا الشاب الذي ولد في ذات العام الذي وقعت فيه اتفاقية أوسلو وكأنه فلسطيني، معتبرا القضية "قضيتي كونها عنوان العدالة النقيض للظلم".

منذ أواخر أيلول/ سبتمبر الماضي تستمر عمليات التنسيق بين شبان وشابات هم خليط من فلسطينيين وعرب للتحرك بوقت واحد ومنظم، مستغلين وسائط عدة وأهمها وسائل التواصل لتحديد نقطة الصفر للانطلاق بتحركات احتجاجية برغم كل ما يحيطهم من إعلام رسمي موال لدولة الاحتلال في ظل حكم يمين متشدد في الدنمارك على سبيل المثال.


كسر الصورة النمطية
نشاط هؤلاء من الجيل الجديد كسر منذ سنوات الصورة النمطية للفلسطيني والفلسطينية. لنأخذ على سبيل المثال 3 من الشبان حضروا في أواخر الثمانينيات من مخيم برج البراجنة في لبنان... درس الثلاثة الطب سوية وتخرجوا ليصبحوا في ذات المشفى وذات قسم التوليد وسط الدنمارك، ويقود أحدهم هذا القسم... الثلاثة يعرفهم المجتمع باسم "الأطباء الثلاثة الدنماركيون الفلسطينيون"... أطلق والدا طفلين اسم أحدهم على أحد المولودين وهما يعرفان من أين أصله.

تلتفت حولك فترى أبا لؤي اللاجئ من مخيمات لبنان وقد تجاوزه أولاده بقصص نجاحاتهم ومنهم من أصبح شرطيا وآخرون في أعمال أخرى، مثلما لدى أبي شريف الذي جاء لاجئا وساهم بتأسيس الرابطة الفلسطينية. وما يجمع كل هؤلاء الشبان نشاط فلسطين منذ أن كانوا صغارا يستمعون للموسيقى الثورية في المهرجانات وندوات وخطب ضيوف فلسطين يخبرونهم عن واقع فلسطين.

نحن أمام جيل منظم، ليس بالمعنى التنظيمي الفصائلي كما كان الجيل الأول. هؤلاء لا يهتمون كثيرا لتسميات "فتح" و"حماس" و"جبهة". لا يعتبر هؤلاء مع رفاقهم الغربيين بأن ما يقومون به هو تضامن، بل وبحسب وصفهم "واجب نصرة الحق وعدم الصمت على عدالة مهدورة".

عضو البرلمان الدنماركي نيكولاي فيلموسن (وهو شاب في الثلاثينات) يقول لـ"فلسطين العربي الجديد": "أنا أفتخر بهؤلاء الشباب والشابات من المواطنين الدنماركيين من أصل فلسطيني، لقد أخذوا المبادرة وأظن بأن هناك كثيرا من دوائر أصدقاء إسرائيل لا يسعدها صورة الفلسطيني التي ينشرها هؤلاء بل يريد صورة الفلسطيني والفلسطينية النمطية الهمجية والإرهابية والتي لا تعرف معنى الديمقراطية باعتبار أن صديقتهم دولة الاحتلال هي الوحيدة رغم دمويتها".

ما يأمله هؤلاء الشباب/ الشابات أن تشكل حركتهم في المهاجر نقلة نوعية مستقبلية يراهن عليها لتغيير وازن بالسياسة والثقافة، ليس فقط لتغيير الرأي العام بل لتشكيل ضغط حقيقي على سياسات الحكومات الأوروبية "لرفع دولة الاحتلال عن قائمة الممنوع المساس بها قانونيا" وفق ما تقول ايرينا كلاوسن الناشطة في فعالية فرض مقاطعة شبيهة بما جرى لجنوب أفريقيا وبمساعدة هؤلاء من الجيل الفلسطيني المنتشر حول أوروبا.

الدكتور عماد الخطيب، واحد من الناشطين في تأسيس عمل شبابي ("بيت الثقافة العربي") مع الرابطة الفلسطينية ونشاطاتها منذ عام 1996 والذي أسس فرقة جفرا للفنون الشعبية الفلسطينية بلباس فلسطيني موحد تقدم عروضا محلية لرفع شأن الثقافة الفلسطينية من خلال التعاون مع فرق من داخل فلسطين، يقول لـ"فلسطين": "هذا الجيل، من سن 6 سنوات وصعودا، يتسابق لتعلم الدبكة والمسرحيات، صحيح أنه يعرض أمام جمهور أجنبي، لكننا أيضا نأمل أن نريه بلاد العرب كفرقة موحدة حتى يرى كيف هم العرب والفلسطينيون خارج نطاقه الجغرافي".

وبالمناسبة، الفلسطينيون الشبان والشابات لا يترددون في ظل ما يجري يوميا في فلسطين في مواكبة يومية قد تكون أحيانا بتوزيع وردة حمراء وسط المدن على المارة مع كلمات شفوية: "تذكر بأن هناك من هو في عمري ولد تحت الاحتلال محاصرا بجدران لا يستطيع التحرك من مدينة لأخرى... اكتب لنائبك في البرلمان ولو كلمتين بأن ما يقوم به الاحتلال مرفوض في القرن الحادي والعشرين".

(الدنمارك)

المساهمون