كم يحرم الفقر في بلادنا أطفالاً نابهين ونابغين من مواصلة رحلة تعليمهم، وكم من هؤلاء الأطفال يكون لديه البصيرة مع الإصرار والشغف لمواصلة رحلتهم رغم الظروف، وكم من هؤلاء يوفقون في مسعاهم، هؤلاء قليل من قليل من قليل.
أما أحدهما فقد انتقل للتو إلى جامعة كولومبيا، والتقاه أحدهم ونشر قصته بلسانه موجزة على صفحة "هيومانز أوف نيويورك" Humans of New York يقول فيها:
ولدت في مصر، وعملت في مزرعة حتى الصف الثالث من دون تعليم، ثم جئت إلى الولايات المتحدة لمدة عام واحد، وبدأت الصف الرابع، لكنني أخرجت منه لأن والدي لم يستطع العثور على عمل وعاد إلى مصر لمدة عام. المرة الأولى التي انتظمت فيها في مدرسة كانت في المرحلة المتوسطة، لكن المدرسة كلها كانت من تلك المدارس المكونة من فصل واحد، وكنت - بسبب ظروفنا المادية الصعبة - أعمل في توصيل الطلبات للمنازل لمساعدة الأسرة. كان من غير القانوني أن أعمل في هذه السن الصغيرة، ولكن هذا ما فعلته. وبعد معاناة من أجل التأقلم والعمل الدؤوب وصلت أخيراً إلى المرحلة الثانوية، إلا أن حادثاً مروعاً كان بانتظاري، فقد احترق منزلنا واضطرت الأسرة إلى الانتقال لمأوى تابع للصليب الأحمر، وكانت الطريقة الوحيدة للعيش هناك هي أن نعمل جميعا كمتطوعين.
استطعت اجتياز المدرسة الثانوية بمشاهدة كل الفيديوهات التعليمية على موقع "خان أكاديمي" وتعليم نفسي كل ما فاتني خلال السنوات التسع الماضية. وفي نهاية المطاف كان عندي الشجاعة الكافية للتقدم بأوراقي لمعهد عال وبالفعل تم قبولي في كوينز كوليدج، حيث ذهبت إلى هناك لمدة عامين، وانتقلت من بعدها إلى جامعة كولومبيا، بعدما ساعدني على ذلك حصولي على المنحة المقدمة من جمعية نيويورك للإسكان لأولئك الذين يعيشون في المشروعات التابعة لها.
اشعر الآن أن الوضع مخيف، وأنا أحاول التأقلم معه، وسبب ارتباكي هو معرفة أن كل من يذهب إلى جامعة كولومبيا كانوا من قبل قد ذهبوا لأفضل المدارس، وحصلوا على أفضل فرص التعليم طوال حياتهم وها أنا بينهم.
أما الشاب الثاني فهو الدكتور محمد مبروك، وكان قد دون قصته الطويلة بنفسه على صفحات مدونة علماء مصر في ديسمبر/كانون الأول الماضي على ثلاث حلقات بعنوان "لم تكن دكتوراه عادية"، وهي بالفعل مسيرة كفاح مضن تكللت بالنجاح في نهاية الأمر:
كنت ابنا لمزارع رقيق الحال، ورغم كونه أُمّيا إلّا إنه كان موقناً أن العلم هو السلاح الوحيد الذي يستطيع المرء أن يحارب به كل شيء، ولدت بمصر في محافظة كفر الشيخ، ثم انتقلت الأسرة إلى محافظة البحيرة عندما كنت في الصف الثاني الابتدائي، كانت القرية التي انتقلنا إليها بلا ماء ولا كهرباء، فكان واجباً علي أن أحضر الماء للأسرة على الحمار من مسافة تزيد على خمسة كيلومترات، الأمر كان عسيراً فالمدرسة كانت بعيدة جداً، لا يوجد مواصلات ولا حتى طرق معبّدة وقد هُدمت المدرسة التي كنت قد التحقت بها في زلزال التسعينيات، إلا أنني أستطيع أن أتذكر أني أكملت السنتين الأخيرتين من الدراسة في المساجد ثم من بعدها في بيت مهجور ثم استخدامه كفصول مدرسية.
يواصل قائلا: كنت متفوقاً جداً رغم غيابي المتكرر بسبب مساعدة والدي في الزراعة، حيث أنهيت المرحلة الابتدائية بالحصول على المركز الثاني على المدرسة ومن ثم انتقلت إلى المدرسة الإعدادية التي تبعد أكثر من 20 كيلومترا عن قريتنا واستدعى هذا أن نركب الحمير أو العجل للوصول إلى المدرسة، كانت معاناة خاصةً في الشتاء حيث الطرق الزراعية غير صالحة للاستخدام الآدمي. لم يكن هناك مجال للدروس الخصوصية ولا حتى مجموعات التقوية، فقد كنت استغرب من أن بعض أصدقائي يذاكرون دروسهم في النهار بعد المدرسة لأنه بالنسبة لي بعد المدرسة مباشرة هناك حقل وبهائم ومياه شرب وأشياء أخرى لا بد أن تُقضَى. و لا يحين موعد استذكار الدروس إلا في الليل حيث لمبة الجاز التي تساعدني على كتابة واجبي المدرسي.
في المرحلة الثانوية انتقلت الأسرة مرة أخرى إلى محافظة الإسكندرية وتحديداً في منطقة العامرية، في قرية تُسمّى الفناجر حيث لا يوجد ماء ولا كهرباء، ربما أشد قحطاً من سابقتها، وهناك كانت المدرسة بعيدة جداً، مما اضطرني إلى ركوب مواصلات بعد أن أمشي خمسة كيلومترات لأصل إلى الطريق السريع.
تأخرت شهراً كاملاً عن بداية الدراسة، إلا أن هذا لم يفل من عزيمتي فذهبت إلى المدرسة التي لم أكن أعرف فيها أحداً وكان الكل يبدو متفوقا جداً ماعدا أنا، لكن لم يدم هذا طويلاً ، فسرعان ما تميّزت في الرياضيات والفيزياء بالرغم من أنني لم يكن لدي أي إمكانية كي أحصل على دروس خصوصية، ولكن كان هناك أمر ساعدني كثيراً، كان هناك بعض الطلاب مثلي ولديهم نفس ظروفي فتعاونّا وكنّا نذاكِر سوياً، كان كل واحد منّا يتولّى شرح المادة التي يُجيدها.
استمرت المسيرة بعد ذلك حتى التحقت بقسم الرياضيات بعلوم قناة السويس، وسرعان ما أصبحت معيداً، وحصلت على الماجستير، ثم وفقت للحصول على منحة الدكتوراه في أستراليا، حيث أعمل حاليا.
الآلاف من الطلاب في قرى وأحياء بلادنا الفقيرة من الخليج إلى المحيط، هم مثل هذين الشابين يضطرون إلى العمل لمساعدة أهليهم ولا يجدون من المبادرات ولا الحكومات ما يعين أهلهم على نفقات تعليمهم، أو استكمال مسيرة التعليم إن كانوا قد بدأوها أو ما يكتشف الموهوبين منهم، ويعينهم على تطوير ذاتهم حتى يصلوا إلى تعليم أفضل، أو يستثمر مواهبهم لصالح أهليهم وبلادهم، وهو وضع آن له أن يتغير.
أما أحدهما فقد انتقل للتو إلى جامعة كولومبيا، والتقاه أحدهم ونشر قصته بلسانه موجزة على صفحة "هيومانز أوف نيويورك" Humans of New York يقول فيها:
ولدت في مصر، وعملت في مزرعة حتى الصف الثالث من دون تعليم، ثم جئت إلى الولايات المتحدة لمدة عام واحد، وبدأت الصف الرابع، لكنني أخرجت منه لأن والدي لم يستطع العثور على عمل وعاد إلى مصر لمدة عام. المرة الأولى التي انتظمت فيها في مدرسة كانت في المرحلة المتوسطة، لكن المدرسة كلها كانت من تلك المدارس المكونة من فصل واحد، وكنت - بسبب ظروفنا المادية الصعبة - أعمل في توصيل الطلبات للمنازل لمساعدة الأسرة. كان من غير القانوني أن أعمل في هذه السن الصغيرة، ولكن هذا ما فعلته. وبعد معاناة من أجل التأقلم والعمل الدؤوب وصلت أخيراً إلى المرحلة الثانوية، إلا أن حادثاً مروعاً كان بانتظاري، فقد احترق منزلنا واضطرت الأسرة إلى الانتقال لمأوى تابع للصليب الأحمر، وكانت الطريقة الوحيدة للعيش هناك هي أن نعمل جميعا كمتطوعين.
استطعت اجتياز المدرسة الثانوية بمشاهدة كل الفيديوهات التعليمية على موقع "خان أكاديمي" وتعليم نفسي كل ما فاتني خلال السنوات التسع الماضية. وفي نهاية المطاف كان عندي الشجاعة الكافية للتقدم بأوراقي لمعهد عال وبالفعل تم قبولي في كوينز كوليدج، حيث ذهبت إلى هناك لمدة عامين، وانتقلت من بعدها إلى جامعة كولومبيا، بعدما ساعدني على ذلك حصولي على المنحة المقدمة من جمعية نيويورك للإسكان لأولئك الذين يعيشون في المشروعات التابعة لها.
اشعر الآن أن الوضع مخيف، وأنا أحاول التأقلم معه، وسبب ارتباكي هو معرفة أن كل من يذهب إلى جامعة كولومبيا كانوا من قبل قد ذهبوا لأفضل المدارس، وحصلوا على أفضل فرص التعليم طوال حياتهم وها أنا بينهم.
أما الشاب الثاني فهو الدكتور محمد مبروك، وكان قد دون قصته الطويلة بنفسه على صفحات مدونة علماء مصر في ديسمبر/كانون الأول الماضي على ثلاث حلقات بعنوان "لم تكن دكتوراه عادية"، وهي بالفعل مسيرة كفاح مضن تكللت بالنجاح في نهاية الأمر:
كنت ابنا لمزارع رقيق الحال، ورغم كونه أُمّيا إلّا إنه كان موقناً أن العلم هو السلاح الوحيد الذي يستطيع المرء أن يحارب به كل شيء، ولدت بمصر في محافظة كفر الشيخ، ثم انتقلت الأسرة إلى محافظة البحيرة عندما كنت في الصف الثاني الابتدائي، كانت القرية التي انتقلنا إليها بلا ماء ولا كهرباء، فكان واجباً علي أن أحضر الماء للأسرة على الحمار من مسافة تزيد على خمسة كيلومترات، الأمر كان عسيراً فالمدرسة كانت بعيدة جداً، لا يوجد مواصلات ولا حتى طرق معبّدة وقد هُدمت المدرسة التي كنت قد التحقت بها في زلزال التسعينيات، إلا أنني أستطيع أن أتذكر أني أكملت السنتين الأخيرتين من الدراسة في المساجد ثم من بعدها في بيت مهجور ثم استخدامه كفصول مدرسية.
يواصل قائلا: كنت متفوقاً جداً رغم غيابي المتكرر بسبب مساعدة والدي في الزراعة، حيث أنهيت المرحلة الابتدائية بالحصول على المركز الثاني على المدرسة ومن ثم انتقلت إلى المدرسة الإعدادية التي تبعد أكثر من 20 كيلومترا عن قريتنا واستدعى هذا أن نركب الحمير أو العجل للوصول إلى المدرسة، كانت معاناة خاصةً في الشتاء حيث الطرق الزراعية غير صالحة للاستخدام الآدمي. لم يكن هناك مجال للدروس الخصوصية ولا حتى مجموعات التقوية، فقد كنت استغرب من أن بعض أصدقائي يذاكرون دروسهم في النهار بعد المدرسة لأنه بالنسبة لي بعد المدرسة مباشرة هناك حقل وبهائم ومياه شرب وأشياء أخرى لا بد أن تُقضَى. و لا يحين موعد استذكار الدروس إلا في الليل حيث لمبة الجاز التي تساعدني على كتابة واجبي المدرسي.
في المرحلة الثانوية انتقلت الأسرة مرة أخرى إلى محافظة الإسكندرية وتحديداً في منطقة العامرية، في قرية تُسمّى الفناجر حيث لا يوجد ماء ولا كهرباء، ربما أشد قحطاً من سابقتها، وهناك كانت المدرسة بعيدة جداً، مما اضطرني إلى ركوب مواصلات بعد أن أمشي خمسة كيلومترات لأصل إلى الطريق السريع.
تأخرت شهراً كاملاً عن بداية الدراسة، إلا أن هذا لم يفل من عزيمتي فذهبت إلى المدرسة التي لم أكن أعرف فيها أحداً وكان الكل يبدو متفوقا جداً ماعدا أنا، لكن لم يدم هذا طويلاً ، فسرعان ما تميّزت في الرياضيات والفيزياء بالرغم من أنني لم يكن لدي أي إمكانية كي أحصل على دروس خصوصية، ولكن كان هناك أمر ساعدني كثيراً، كان هناك بعض الطلاب مثلي ولديهم نفس ظروفي فتعاونّا وكنّا نذاكِر سوياً، كان كل واحد منّا يتولّى شرح المادة التي يُجيدها.
استمرت المسيرة بعد ذلك حتى التحقت بقسم الرياضيات بعلوم قناة السويس، وسرعان ما أصبحت معيداً، وحصلت على الماجستير، ثم وفقت للحصول على منحة الدكتوراه في أستراليا، حيث أعمل حاليا.
الآلاف من الطلاب في قرى وأحياء بلادنا الفقيرة من الخليج إلى المحيط، هم مثل هذين الشابين يضطرون إلى العمل لمساعدة أهليهم ولا يجدون من المبادرات ولا الحكومات ما يعين أهلهم على نفقات تعليمهم، أو استكمال مسيرة التعليم إن كانوا قد بدأوها أو ما يكتشف الموهوبين منهم، ويعينهم على تطوير ذاتهم حتى يصلوا إلى تعليم أفضل، أو يستثمر مواهبهم لصالح أهليهم وبلادهم، وهو وضع آن له أن يتغير.