لوحة تحمل أسرار مرحلة بكاملها

11 اغسطس 2015
+ الخط -
إنها حكاية لُويْحة تقودنا إلى شبكة مركبة من العلاقات والألغاز، وتكشف لنا جزءاً من تاريخ الفن والثقافة في الخمسينيات. تبدأ الحكاية، في 2010، حين عثر الممثل الفرنسي، جيرار دو سارث، مصادفة، في أحد أسواق سقط المتاع، على لويْحة أثارت انتباهه. كانت اللوحة بورتريه بالباستيل لا يتجاوز مقاسها الثلاثين سنتمترًا على مثلها. وفي أسفلها على اليمين كُتب بخط واضح : "William S. Burroughs. Tanger 54". وبما أن الاسم يحيل مباشرةً إلى كاتب أميركي كبير، فلم يتردّد الممثل في السؤال عن ثمنها؛ "20 يورو". وماذا لو كان قد عثر على كنز؟ هكذا قال في نفسه وهو ينقد البائع العشرين يورو وينسحب من هناك ساهمًا.
تداخلت الأفكار في ذهن جيرار وتشابكت الأسئلة. أهو بورتريه الكاتب، أم لوحة مهداة له؟ في ما بعد التقى صديقته الصحافية والناقدة الفنية، مونا توماس، فأخبرها عن الأمر، وظلّا معًا يحدّقان في هذه اللوحة التي تمثّل وجهًا لشاب عربي من طنجة.
هكذا انطلق البحث في جميع الاتجاهات وراء "حقيقة" اللوحة، وهوية الشاب المصوَّر فيها. كانت توماس تملك تاريخًا، 1954، ومكانًا ، طنجة. غير أن وجود اسم الكاتب "وليام بوروز" في اللوحة لم يكن واضح المعنى ويثير من الأسئلة أكثر مما يجيب عنها.
الأكيد في الأمر أن اللوحة كانت تمثّل شابًا عربي الملامح، رغم الطابع التعبيري الذي انتهجه صاحبها. والأكيد أيضًا أن صاحب اللوحة كان فنانًا غير واقعي مرّ في طنجة في 1954. وتبعًا لهذه المعطيات، لم تلبث الصحافية أن توصلت إلى أن صاحب الوجه الأسمر لم يكن غير الفنان المغربي، أحمد اليعقوبي.
كان اليعقوبي في الخمسينيات شابًا معروفًا في طنجة التي كانت تتمتع بوضعية قانونية دولية. وكانت مستقرًا ومعبرًا للعديد من الشخصيات الأدبية والفنّية العالمية، كبول بولز وويليام بوروز وتنيسي ويليامز وفرانسيس بيكون وغيرهم. وكان الشاب المتحدّر من مدينة فاس، حينها، صديقًا للكاتب والموسيقي الأميركي، بول بولز، وأحد مصادره الحكائية التي منها ينهل رواياته.
ولأن الفنان البريطاني، فرانسيس بيكون، كان يرتاد طنجة في تلك الفترة، فقد اتجه نظر الصحافية توماس أولًا صوب فرضية أن يكون بيكون صاحب البورتريه. فتابعت حدسها، لتكتشف أن الشاب المغربي صادق الفنان المعروف في الخمسينيات، وأن هذا الأخير لم يتورع عن إعطائه دروسًا في الرسم. كما أن بيكون كان يمارس الرسم بالباستيل، والدليل موجود، إذ إنه اقتنى هذه الأقلام بطنجة في تلك السنة.
لا تهمنا المتابعة التي قامت بها الصحافية، لأنها لم تصل إلى نتيجة محددة بخصوص صاحب اللوحة، بقدر ما يهمّنا أن يكون ذلك الوجه الأسمر الناضح بالغرابة لأحد الفنانين الكبار، الذين وسموا تاريخ الفنّ المغربي، بل والعربي في المهجر الأميركي، منذ الخمسينيات. فأحمد بن إدريس اليعقوبي اشتغل مع بول بولز منذ وصوله إلى طنجة في أواخر الأربعينيات كحكواتي؛ الذي كان معروفًا عنه ولعه بالحكاية الشعبية واشتغاله عليها، وتسجيله لها من أفواه أصحابها.
كانت طنجة حينها مدينة حية، معروفة بلياليها وموسيقييها وحاناتها ومطاعمها. وكان كبار الفنّانين والأدباء يجدون فيها ضالّتهم. والحقيقة أن بولز كان محور هذه اللقاءات والنافذة التي يرى من خلالها الأميركيون والبريطانيون خصوصًا البلد وأصحابه، بل إن بولز كان وراء ولادة عدّة فنانين كانوا يدورون في فلكه.
ولد أحمد اليعقوبي في فاس سنة 1928، وغادرها إلى طنجة ولم يكن قد بلغ العشرين. هناك بدأ يكتشف عالمًا آخر مخالفًا للعالم التقليدي لمسقط رأسه. وليس من الغريب أن تكون صداقة اليعقوبي وبولز وراء كتابة هذا الأخير إحدى أهمّ رواياته عن مدينة فاس؛ "بيت العنكبوت".
كانت رسوم اليعقوبي ولوحاته (ربما كحكاياته) مزيجًا من التشخيص والتجريد، وأشبه بالأحلام أو الكوابيس. يمارسها كما لو أنه اكتشف البركان الرابض فيه، يغمس فيها حياته الغريبة في هذه المدينة المدوّخة العجيبة.
لم يلبث اليعقوبي أن صار فنان طنجة "العربي" بامتياز. فقد عرض له بولز رسومه برواق "غاليمار" في طنجة، حيث باع الشاب الفنان ما يقارب الثلاثين عملًا، مبينًا بذلك عن موهبة قلّ نظيرها. كما انتبهت الفنانة الأميركية، بيتي بارسونز etty Parsons، إلى أعماله بعد أن فتحت رواقها الفنّي في أواسط الأربعينيات بنيويورك، وأقامت له معرضًا سنة 1952. ومعلوم أن هذا الرواق قد عرض أعمال أكبر الفنانين الأميركيين في تلك المرحلة، كجاكسون بولوك وروثكو، ما يؤكد المكانة التي تبوأها هذا الفنان الآتي من عالم آخر، الذي اكتشف سحر التشكيل من خلال معاشرة الفنانين الكبار العابرين في طنجة. في السنة نفسها سيدعوه بولز إلى جزيرته بسيلان. وهناك سيتعرف اليعقوبي على ضيفته الشهيرة "بيجي غوغنهام" (Marguerite Guggenheim) الجمّاعة الفنية الأميركية الشهيرة، التي ستقتني بعض لوحاته. وفي سنة 1966 سيستقرّ اليعقوبي نهائيًا بنيويورك مع زوجته الأميركية.
ظلّ هذا الفنان مغمورًا في بلاده حتى بعد وفاته سنة 1985، حيث ووري جثمانه تراب أميركا. ولم تفكّر عائلته باسترداده إلا قبل خمس أو ست سنوات بعدما صار معترفًا به في وطنه، واستعاد مكانته في تاريخ الفنّ المغربي باعتباره ليس فقط رائدًا للفن الحديث، قبل الغرباوي والشرقاوي، ولكن باعتباره حلقة وصل مهمّة بين بدايات الفنّ بالمغرب بين عشرينيات القرن العشرين وأواخر نصفه الأوّل.
رغم أن أعمال اليعقوبي لا تزال مشتتة بين أميريكا وأوروبا، إلا أن ما نعرفه عنه يجعلنا نعترف بأنه المبشّر بالحداثة التشكيلية، التي ضخّها الجيلالي الغرباوي سنوات قليلة بعد ذلك، وبالكثير من العمق والغنائية. إنها قطرات الغيث الأولى التي روت أرض الفنّ المغربي، وتركت بصمة واضحة على الفنّ العربي في المهجر الأميركي.
المساهمون