أين جبران؟

14 يوليو 2015
تصميم: راغب أبو حمدان
+ الخط -
منذ أمد، أودّ التعبير عن هذه الرؤية الذاتيّة لأعمال جبران خليل جبران الأدبية والفنية، التي لا أدري إذا كان أحدٌ من قبل، من بين قارئيه ودارسيه الكثُر، قد تطرّق إليها. 
من الأساس، يعود اهتمامي بجبران لأسباب ذاتيّة، وليست أكاديمية. فنحن، أوّلاً، ننتمي إلى البيئة الطبيعية والمجتمعية نفسها، بيئة وادي قاديشا، في أعالي جبل لبنان. هو على كتف قنّوبين، ونحن على كتف قزحيا، يفصل بيننا مرتفع بقوفا، وجيلان اثنان، إذ هو من عمر جدّي تقريباً. وفي تلك البيئة الجبلية، الضاربة جذورها قروناً طويلة في الأرض، كان الرأي السائد، منذ حداثتي، أنّ جبران هو"الكاتب الأهمّ في العالم". وكانت أمّي تحبّ كتبه، المتوافر بعضها، آنذاك، في بيتنا. لذلك، كان جبران من أوائل الكتّاب الذين قرأتهم. قرأته بكامله قبل سن الرابعة عشرة، بأعماله العربية والمعرّبة. وكنت ولا أزال أفضل إلى حدّ بعيد، تعريب الأرشمندريت أنطانيوس بشير لمؤلفاته الإنجليزية، كأنّ جبران صاغها بالعربية، بأسلوبه وإيقاعه نفسيهما. ما سوى ذلك من ترجمات، منذ ذلك الحين، لم يثر الكثير من اهتمامي، بما فيه ترجمة ميخائيل نعيمة، على الرغم ممّا يمكن أن تحمله هذه الترجمات من محاسن لغوية، إذ أفتقد فيها أسلوب المؤلِّف وروحه. 
لكن، منذ قبيل سنّ السادسة عشرة، حين أدركتُ في صورة نهائيّة أنّ دعوة الكتابة هي دعوتي، وحين باشرت تدوين "يومياتي الداخليّة"، المستمرّة إلى اليوم، والتي تنبع منها أعمالي الأدبية كلّها، انفصلتُ عن جبران وسائر كتّاب حداثتي الأولى، في اتجاهات وعوالم أخرى لم أخترها، إذ هي اتجاهات ذاتي ولغتها وعوالمها، وما زلت فيها. 
لا شك أبدا في حبي لجبران، وتقديري الكبير له، إذ إنّه، أكثر من أي أديب لبناني آخر، حمل ما حمله من ذات أرضه وشعبه، إلى مختلف أنحاء العالم. 
لكنّ جبران، مثله مثل أترابه "الأدباء المهجريين"، غلبتْ عليه عموماً نزعة "الأدب الفكري"، وإن تميَّز عن معظمهم، برهافة مشاعره إزاء الطبيعة والأشخاص والأحداث والأمكنة، وعلى الرغم من غنائيته ورومنطيقيته. وخصوصاً هذا الإيقاع الداخلي الجميل، الفريد، الذي تنطوي عليه جملته، والذي لا يشبهه فيه أحد. 

اقرأ أيضاً: أنا وجبران وصليبا

مع ذلك، كان جبران يعتقد، شأنه شأن نعيمة والريحاني وسائر المهجريين، أن الكتابة، كما الرسم لديه، يجب أن تحمل، في كلّ نصّ، وفي كلّ لوحة، حقيقة فكرية، تشكّل هدفية العمل وجوهره. هكذا تتوالى لديه الحقائق، والتعريفات، عن الحبّ، والحياة والموت، والخير والشر، والعدل والظلم، والخطأ والصواب، والمعرفة والجهل، والدين، والآباء والبنين، والأمومة، والصداقة، وسواها من الموضوعات التي يضيق المكان بتعدادها. إنّه مفهوم الأديب- الحكيم، والأديب- المعلِّم. 
وهو ما أبقى جبران بعيداً عن "الأدب الذاتي"، بمعنى التعبير عن "ذات الأعماق"، وهي الصفة الغالبة عموماً على"الأدب الكبير"، أي الأدب الذي يحمل، في تعبيره عن العالم الداخلي (الذي لا عالم إبداعياً كبيراً سواه)، كلّ مكوّنات الذات وعناصرها ومستوياتها في رؤيتها العالم والكون، في وعيها ولاوعيها، وفي نزعاتها الدفينة وأسرارها وهواجسها وأحلامها وكوابيسها، وفي شكوكها والتباساتها وتناقضاتها، في ما يتخطّى كثيراً، حدود المنطق والعقل ومفاهيم الخطأ والصواب والحقيقة، وحيث يحتلّ البعد الفكريّ المستوى الأبسط. هكذا، من شكسبير، إلى دوستويافسكي، إلى بودلير، إلى بروست، وسواهم. 
هذا لا يعني أبداً أن جبران لا يملك ذاتاً كثيرة العمق والتشعّب، كلا. لكن مفهومه للأدب والرسم، لم يصِله بها. فمن اللافت أنه خلال إقامته في باريس بين عامي 1908 و1911، لم يكتشف فيها، لا في الأدب ولا في الرسم، الساعين إلى "ذات الأعماق"، والذين، في ما يتخطّى الزمن الرومنطيقي، أسّسوا حداثة القرن العشرين الجمالية. لم يكتشف رامبو، ولا فيرلين، ولا بودلير، ولا مالارميه، ولا نيرفال، ولا لوتريامون، على سبيل المثال، ولم يتفاعل في شيء مع الرسم الانطباعي. 
بقي في الرسم ضمن حدود الرمزية (الرمز الموصِل حكماً إلى الفكرة والدّال عليها). وفي الأدب، بقي ضمن الثقافة السائدة في بوسطن مطلع القرن العشرين، بأفكارها ورموزها، ثقافة رفض العالم الصناعي الصاعد، والحنين إلى الروحانيات الشرقية كبديل منه، وقد أضافَ إليها جبران رومنطيقيته، وتمردّه على التقاليد، ومسحة من روحانية مشرقه، وعناصر الطبيعة اللبنانية التي أحبّ، وإيقاعات طقوسه المارونية السريانية، المتسرّبة عميقاً إلى لغته. 
ولا شكّ في أن هذا المزيج من الأفكار والمشاعر، المُرهَف التعبير، السهل الفهم، الذي يمكنه الوصول إلى كلّ الناس، شرقاً وغرباً، هو سرّ نجاحه ورواجه.
المساهمون