فنّ المقام العراقي

19 مايو 2015
+ الخط -
الفنّ الرجولي أعني به فنّ المقام العراقي، إذ لا يقصد بهذا التعبير تحديد الجنس رجلًا أو امرأة، بل المقصود الصفة الأخلاقية الرجولية في الكرم والوفاء والمروءة وغيرها. لكننا عندما نريد تحديد الجنس، يمكننا القول الفنّ الرجالي أو الفن النسائي في غناء المقام العراقي.
كتب من كتب عن هذا الفنّ إذن، وأدلى دلوه من أحسَّ أن الأمانة توجب عليه إثراء وإغناء المكتبة العربية والمكتبة العراقية على وجه الخصوص.
ولا شكّ في أن فنّ الموسيقى والغناء في أي عصر من العصور، هو انعكاس لحياة المجتمع وتعبير عنه، وصورة صادقة، لها قيمتها في نقل هذه التأمّلات والانفعالات والتطلعات من زمن إلى آخر ومن جيل لآخر.
فالموسيقى والغناء عامّة، والمقامات العراقية أو الأغنية الفولكلورية التي يُطلق عليها اسم "بسته" وهي في أصلها
كلمة فارسية معناها "الرابط"، هي من الأغاني الخفيفة المرحة ملحقة بالمقام العراقي الذي يغنيه المغني، فهي ملحقـة بالمقام المغنى. "البسته" أغنية بسيطة، تعبّر عن مشاعر المجتمع من خلال المغني بآنية وتلقائية خاصة. تحوي كلّ ظروف البيئة وتعبّر عنها. ولمّا كانت هذه البيئة تعرِّف الغناء والموسيقى إذ تعطيهما شكلاً ومضموناً تعبيرياً خاصاً، فقد كان لهيبتها وجلالها التأثير البالغ في نفوس المجتمع وذوقه، حيث تميّزه عن غيره من المجتمعات الأخرى.
ما هو المقام العراقي؟ وما جوهره؟ أعتقد أن هذا الموضوع من أعقد المواضيع وأصعبها، وربّما أسهلها في الوقت نفسه. لأنه في الحقيقة، لا يوجد أي رأي ثابت أو رأي موحَّد يبيّن جوهر الموضوع. فقد صاحب تعريف المقام العراقي اجتهاد شخصي، تأثّر بمؤثرات متنوعة، لذا رأى البعض أن تعريف المقام العراقي، يعدّ موضوعاً معقداً وصعباً. بينما رأى البعض الآخر، أنه سهل يسير، وأن لا داعي إلى الإيغال في فلسفة لا يحتملها هذا التراث العريق. ولسنا هنا في معرض استعراض تفاصيل وتعاريف تبيِّن ما كتب وما تحدّث به النقّاد والمتخصصون. بل سنحاول فقط أن نعطي تحديداً وتعريفاً شاملاً لهذا التراث الغنائي.
إذ يسود اعتقاد بأن المقام العراقي عبارة عن مجموعة أجناس موسيقية وغنائية تتصل ببعضها، لتكوين قوانين وعناصر وأصول حُلَّتْ ألغازها. بيد أن المقام العراقي إضافة إلى وجود هذه الأجناس هنا وهناك في غنائه، يعتبر نمطاً معيناً من النظام الدقيق ذي الأصول الغنائية الرصينة. وهـو عمل حسّي تمتزج مكوناتـه جميعاً للحصول على الوحدة المتكاملة في بنائه، وهو أيضًا قابل للتطوير.
على كل حال، يتكوَّن شكل المقام العراقي المسمى الفورم ويقصد به علم الأشكال الموسيقية بصورة عامّة من خمسة عناصر أساسية يعتمد عليها كلُّ مقام على حدة في بنائه اللَّحني والموسيقي. وأوّل العناصر، التحرير، ويقصد بهذه المفردة، البداية أو الاستهلال لغناء أَحدِ المقامات. ويأتي هذا الاستهلال غالباً بكلماتٍ أَو ألفاظٍ خارجةٍ عن النصّ الشعري المُغنّى مثل ألفاظ: أَمان أَمان، أَو ويلاه ويلاه. ويعتبر التحرير نموذجاً لحنياً متكاملاً لروحية وتعابير وثيمة المقام المُغنّى. العنصر الثاني هو "القِطَع والأَوْصال"، ويقصد بهاتين المفردتين اصطلاحًا، بالتنوع السلَّمي أي التحولات السُّلَّمية أَو الأَجناس الموسيقية ضمن علاقات لحنية متماسكة، والعودة دائمًا إلى سلَّم المقام المُغنّى، أي السلَّم الأَساس أو الميلودي. وهذه التحوّلات أو القطع ذات أشكال ثابتة ومحدّدة في مساراتها اللحنية في غالب الأَحيان. العنصر الثالث هو "الجلسة"، وهي النزول إلى الدرجات الموسيقية المنخفضة بأُسلوب القرار، ولكن بمسار لحني محدّد ذي شكل معين يكاد أَن يكون ثابتاً. أي ليس أي نزول أو أي قرار يعني الجلسة بالضرورة. حيث تشير هذه الجلسة للموسيقيين أو توحي للمستمعين أَيضًا بأنه ستأتي طبقات عالية من الغناء، أي الجواب، أَو أَكثر من الجواب. مثل فعل وردّ الفعل، أي لا بدّ من حدوث هذه الجوابات التي تأتي أَيضا بمساراتٍ لحنيةٍ محدَّدَةٍ وبشكل معين ليس أي جواب أَيضًا. وتسمى هذه الجوابات بـ"الميانة"، وهي العنصر الرابع. ويأتي غناؤها بطبقةٍ صوتيةٍ عاليةٍ بعد الجلسة مباشرة ذات شكلٍ ومسارٍ لحني معين ثابت. على أَنَّ هذه الجوابات أَو هذه الميانات ليس من الضروري دائمًا أن تسبقها "جلسة" من حيث هي عنصر من عناصر شكل المقام العراقي، فقد تأتي صيحات غنائية عالية لها مقوّمات الميانة؛ وأَهمُّ هذه المقومات ثبات هذه الصيحة في المقام المُغنّى من دون الحاجةِ إلى أَن تسبقَها "جلسة". في حين أَنَّ النزول إلى "الجلسة" في العنصر الثالث يجب أن تتبعها "ميانة" في كلِّ الأَحوال. إِضافة الى أَنَّ هناك صيحات عالية من الغناء حرّة يستسيغُها المُغَنّي حسب مزاجه الآني، لا علاقة لها بموضوع "الميانة" خلال غنائه للمقام؛ لأَنَّها لا تمتلكُ مقوماتِ "الميانة". أمّا العنصر الخامس فهو "التسليم" وهو نهاية المقام، ويأتي غالبًا بألفاظٍ أَو كلماتٍ غنائيةٍ خارج النصّ الشعري، شأنُه في ذلك شأن العنصر الأَوَّل "التحرير".
المساهمون