أنا وجبران وصليبا

19 مايو 2015
+ الخط -
في البيئة التي نشأتُ فيها في جبل لبنان الشمالي، فوق ذلك السفح الممتدّ على كتف وادي قزحيا، المُطِلّ من ارتفاع شاهق على البحر، المُحاط بالغابات والينابيع وهامات الأقدمين، ثمّة معتقدات وآراء راسخة، متوارثة من جيل لآخر. منها ما هو متجذِّر منذ مئات السنين، بأن لبنان هو "أجمل بلد في العالم"، وبأن إهدن هي" أجمل مكان في الدنيا". حقيقتان بديهيتان لا شكّ فيهما، مقيمتان عميقاً في الوعي وفي اللاوعي الجماعيين. ومنها ما هو آتٍ من الجيل السابق، بأن جبران خليل جبران وصليبا الدويهي، هما "أهمّ كاتب وأهمّ رسّام في الشرق وفي المعمورة".
على الرغم من الطابع الشعبي، العفوي، البسيط، والمطلق، الذي تتّسم به هذه الأحكام، فهي لا تخلو من الأساس. فجبل لبنان، قبل تشويهه المؤلِم منذ نصف قرن، كان على مدى آلاف السنين، رمز الجمال الأرضيّ في المخيّلة البشرية. من ملحمة غلغامش السومرية - البابلية، إلى أرثور رامبو هاتفاً، أواخر القرن التاسع عشر : "يا لبنانات الحلم!"، مروراً بحضوره الفريد في النصوص التوراتية كمثال البهاء والمنعة والطهارة، وفي النصوص الإسلامية والأحاديث النبوية الشريفة، حيث هو "ملكُ الجبال، حاملُ عرش القيامة"، إلى المئات من كتب الرحّالة الأوروبيين، من القرن الخامس عشر إلى مطلع القرن العشرين، التي تحوي أجمل ما قيل فيه في كلّ الأزمان.
كما أن مشهد بلدة إهدن الخلاّب، - خصوصاً قبل نصف القرن الأخير، والآتي ربما أدهى -، وتقاربَ أسمها في اللغات الأوروبية مع كلمة "عدن"، الجنّة، حمل بعض المؤرّخين المحليين، وبعض الرحّالة، مثل الإنكليزي دايفيد أوركهرت، على اعتبارها قائمة في موقع "الجنّة الأرضيّة" نفسه. ويُشار إليها في بعض الخرائط الأوروبية القديمة بكلمة "جنّة". وقد انتشر هذا الاعتقاد إلى حدّ أن المفكّر والعالِم الفرنسي أرنست رينان اضطرّ إلى ذكره وتصويبه في كتابه الأركيولوجي الشهير "مهمّة في فينيقيا"، الصادر عام 1864.
أما جبران خليل جبران، فلم يعد من شكّ، خصوصاً مع "النبي"، في أنّه الكاتب المشرقي الأكثر انتشاراً وشهرةً في العالم. وهناك العديد من نقاد الفن الغربيين، الذين يجارون الفرنسي غاستون ديل، في وضع صليبا الدويهي في طليعة رسّامي المشرق.
عرفتُ صليبا الدويهي في باريس، وهو في السادسة والسبعين من عمره، حين انتقل إلى لندن، ومنها إلى ضواحي شامبيني سور مارن، على مقربة من مدينة السين، بعد إقامته الطويلة في الولايات المتّحدة. كان، بقامته الجبليّة الشامخة، في عزّ حيويته وإقباله على الحياة. وكان وراءه تراثٌ بالغُ الثراء، انتقل خلاله، على مدى ستين عاماً، من الكلاسيكية إلى الانطباعية، إلى المرحلة الانتقالية التجريبة، وصولاً إلى الحروفية والتجريد المطلق، في بحثه الطويل عن تعبيره الأمثل.
ما أوّد إيراده هنا عن جبران، والأدب المهجري اللبناني، وصليبا الدويهي، هو انطباعٌ ذاتيّ، لا أدري إذا كان أشار إليه أحدٌ من قبل. من اللافت في مجمل كتابات جبران ورسومه، وفي مجمل كتابات المهجريين اللبنانيين، كما في أعمال الدويهي كافّة، أنّه لا وجود لأي طبيعة غير الطبيعة اللبنانية. ولدى جبران والدويهي، ثمة طبيعة واحدة بالغة الحضور، هي طبيعة وادي قاديشا، في جانبيه، قنّوبين وقزحيا. ويهمّني، شخصيّاً، هذا الأمر، لأنّي أنتمي أساساً، إلى هذه الطبيعة نفسها، ولي حبٌّ كبير لها.
لكن مع قدر من التساؤل حولهما، وحول نفسي. أستغرب، لكن بكثير من الرغبة في الفهم، وليس الانتقاد قطّ، كيف أنّ مُبدعَين كبيرين مثلهما، أمضيا عشرات السنين من حياتهما في الغرب، لم يجدا فيه من المشاهد الطبيعية، ما يمكنه الدخول إلى عالميهما. كأنّ طبيعة وادي قاديشا سكنتْ نفسيهما إلى الأبد، ولم يريا من بعدها أي طبيعة. وكأنهما يعتقدان، في الوعي أو اللاوعي، بأن الطبيعة الوحيدة التي تستحقّ ولوج عالم الأدب والرسم، هي الطبيعة اللبنانية. هل هو تجذّر، المعتقد الشعبي، الجماعي، عميقاً، فيهما، بأن جبل لبنان هو المكان الأجمل في العالم؟
وأتساءل حول نفسي : ما الذي يفرّقني، ما الذي يميّزني، عنهما، وأنا ابن البيئة الطبيعية والتراثية نفسها، وأنا المسكون، بالقوّة عينها، بتلك الطبيعة، كي أتفاعل إلى هذا الحدّ، إضافة إليها، ومن دون تناقض معها، مع جمالية المشاهد الغربية، التي طبعت ذاتي، هي أيضاً، في صورة تلقائية، لا شعورية، وتسرّبت عميقًا إلى عوالمي وكتاباتي؟ تُرى، هي مسألة الأجيال الأدبية؟ لا أدري. علماً بأن لا أحد تقريباً، في جيلي الأدبي، يولي اهتماماً لافتاً بجماليات المشهد والطبيعة وأسرارها.
المساهمون