احتمال سينما عربية مستقلّة

12 مايو 2015
الفيلم المصري "الخروج للنهار" لهالة لطفي
+ الخط -
تكمن إحدى الأسئلة الثقافية المتعلّقة بالنتاج السينمائي العربي في عنوان أساسي: "السينما المستقلّة". في الربع الأخير من تسعينيات القرن المنصرم، يُطرح السؤال بشدّة، مع "افتتان" شبابيّ عربيّ بالمفردتين اللتين توحيان بتمرّد ما على أنظمة قائمة. وهذا، إلى حدّ بعيد، صحيح من حيث المبدأ، أي نظرياً. غير أن التمعّن في أحوال السينما العربية يدفع باتجاه قراءة أخرى للمفهوم، بناءً على طبيعة الحراك السينمائي، إنتاجاً وتوزيعاً وصناعة وجماليات. فالطبيعة هذه تعكس غياب آليات إنتاجية ضخمة تتحكّم بالسوق السينمائية، ما يعني ـ حُكماً ـ غياب سينما تستقلّ عنها، باستثناء السينما المصرية بالدرجة الأولى، لكونها ذات نظام إنتاجي متكامل، يمتدّ على سياسة شركات كبيرة تفرض رؤيتها وأساليب اشتغالاتها وكيفية اختياراتها المواضيع والنجوم والمعالجات. وباستثناء المغرب، وإن بمرتبة أقلّ، لأن لديه آليات رسمية للإنتاج، وكذلك دول أخرى كالجزائر وسورية تحديداً، ما يُحتّم الإقرار بإمكانية ولادة "سينما مستقلّة" ما.
"السينما المستقلّة" تعبيرٌ قائم بحدّ ذاته في الغرب، من دون أن يكتفي بـ "تمرّد" على السياسات الإنتاجية والتوزيعية، لأنه ذاهبٌ أيضاً إلى ابتكار أشكال ونُظم وأساليب تتشكّل بها تلك السينما. إذ إن "استقلالية" السينما عن الأنظمة الإنتاجية في الغرب تؤدّي إلى "ثقافة" جمالية وفنية ودرامية تتكامل وإنتاج يليق بانفضاضها عن تلك الآليات الكبيرة، وتعثر على امتداد لها في بنى إنتاجية تتساوى والفعل النظريّ لهذه السينما: التخلّي عن مفهوم النجم يُرادفه اشتغال على بناء مختلف للشخصيات. تخفيض تكاليف الإنتاج يتساوى وأولوية الاشتغال على معالجات درامية تميل أكثر إلى لغة الصورة التي تختزل، أو التي تُساهم في اختزال فضاءات مختلفة في الحبكة والسياق والعلاقات القائمة بين الشخصيات، أو بين كل شخصية وذاتها. يقول البعض إن "السينما المستقلّة" قادرة على احتواء أنماط متعدّدة أخرى، كـ "السينما التجريبية" و"سينما الهواة" و"سينما النوع". هذه الأخيرة مفتوحة على أشكال تُصبح اليوم جزءاً أساسياً من العمل السينمائي غرباً وشرقاً: الـ "دوكيو دراما" مثلاً.
لعلّ "مانيسفتو" المخرِجَين السينمائيين الدنماركيين لارس فون ترير، وتوماس فينتربرغ ، المعروف بـ "دوغما 95"، يبقى مثلاً أبرز في المعنى الثقافي ـ الجمالي ـ الفني لـ "سينما مستقلّة"، يُراد لها أن تواجه ـ بمفرداتها وأدواتها وأشكالها ـ حالة سينمائية متفشّية في العالم منتصف التسعينيات المنصرمة. في 13 مارس 1995، يكتب السينمائيان البيان في كوبنهاغن، لكنهما يُذيعانه رسمياً في 20 مارس 1995، في "مسرح أوديون ـ باريس"، تزامناً مع الاحتفالات الدولية بالمئوية الأولى لولادة الفنّ السينمائي. يواجه البيان الإنتاجات الأنغلوساكسونية الضخمة، والاستخدام ـ المؤذي والمسيء للسينما ـ لـ "المؤثرات الخاصّة"، ما يؤدّي إلى تصنيع أفلام معلّبة، ذات نمط واحد أو متشابه شكلاً ومضموناً، وغير ذاتية.
لم يشهد العالم العربي ولادة حركة سينمائية مستقلّة، بالمعنى النظريّ ـ النقديّ، تتكامل فيما بينها باتّجاه خلق أرضية صالحة لإنتاج أفلامها، ولبنى تحتية وفكرية متعلّقة بكيفية إنجاز الأفلام هذه. أساساً، لا توجد "إنتاجات ضخمة" في العالم العربي، ولا اشتغالات على "المؤثّرات الخاصّة"، باستثناء الحركة الإنتاجية المتكاملة في مصر. وهذا لأن الغالبية الساحقة من الأفلام العربية نتاج جهود فردية، كتابة وإخراجاً وتنفيذاً وإنتاجاً. ولأن الغالبية الساحقة نفسها لا "تتمرّد" على آليات "إنتاج ضخم" بسبب عدم وجوده أصلاً. المؤسّسات الرسمية في سورية والعراق (سابقاً) مثلاً "تمنع" ولادة سينما إلى جانبها، لرغبة النظام السياسي القائم في التحكّم بأمور البلد وناسه. أساساً، لا توجد شركات إنتاج خاصّة في سورية، إلاّ في الأعوام القليلة السابقة على اندلاع الحراك الشعبي، وبشكل خفر، أو تلفزيوني أكثر. مع هذا، توجد إنتاجات سينمائية قابلة لأن تكون "مستقلّة" بالمفهوم النظريّ المتداول. السينما المُنتجة في لبنان وفلسطين، لا ترتبط بأي نظم إنتاجية واضحة، لأنها معتمدة على جهد فردي يذهب بصاحبه إلى شراكات إنتاجية مع شركات ودول غربية. أما الشقّ النقديّ، فيكشف أن الارتباكات الفنية والجمالية والإخراجية السابقة، خصوصاً على المستوى الوثائقي، لم تعد حاضرة، لأن نضجاً ثقافياً وبصرياً حقيقياً يؤدّي بمخرجين شباب إلى تفعيل النمط "الوثائقي ـ المتخيّل" (أو الـ "دوكيو دراما" أو الـ "دوكيو فيكشن" بحسب المفردات النقدية الأجنبية) باتجاهات بصرية سينمائية "تنخرط في العيش اليومي الحقيقي"، و"تبلور أسلوباً حيوياً ومتوتراً وقاسياً وواقعياً"، بحسب بيان "دوغما 95". أما النمط الروائي، فيزداد توهّجاً جمالياً، سواء أكان هذا في المغرب، عبر أفلام فوزي بنسعيدي ونبيل وهشام عيوش وغيرهم، أم في مصر، من خلال تجارب مهمّة جداُ لكلّ من هالة لطفي وسلوى الطرزي وندين خان وكريم حنفي، القادمين بعد جيل إبراهيم البطوط وأحمد العبد الله، اللذين "تورّطا" في فيلمين أخيرين لهما، أقلّ قيمة جمالية عما ابتكراه سابقاً: "القطّ" (2014) للبطوط و"ديكور" (2014) للعبدالله.
هذه أمثلة تؤكّد حيوية سينما تنغمس في الذاتيّ من دون أن تنسى الجماليات البصرية، وتنفتح على الواقع من دون أن تستند إلى المؤثّرات التقنية، وتبوح من دون أن تُغَلِّب الشكل على المضمون، أو العكس. التجارب الوثائقية اللبنانية دليلٌ على تميّز هذا النوع السينمائي في العالم العربي وفرادته، بسمات تتّخذ من الشكل مدخلاً إلى تفكيك بُنى الحياة وأسئلتها الكثيرة. هذه أمثلة قليلة. في سورية وفلسطين أفلام عديدة لا يأبه صانعوها بإنتاجات ضخمة أو كبيرة، مالية وتقنياً وشكلياً، لشدّة انغماسهم في اللغة السينمائية المتكاملة، التي يُمكن وصفها بأنها "سينما مستقلّة" بالمعنى النظريّ على الأقلّ.
(كاتب لبناني)
المساهمون