مرآة واحدة، رؤى متعدّدة

26 أكتوبر 2015
قزحيات، فنسنت فان غوغ (Getty)
+ الخط -
أشياء كثيرة تلفت النظر في التحقيق المنشور في "ملحق الثقافة" هذا الأسبوع، حول تجربة الكتابة لدى مبدعين عرب في دول أجنبية، بالارتباط مع أصولهم وسيرورتهم المُعاشة وثقافتهم، التي تنوس بين الأصلية والمكتسبة في البلد الذي هاجر آباؤهم إليه، وفيه ولدوا وتعلموا وما يزالون يعيشون ويبدعون.

ويكاد يكون ثمة خيط رفيع واحد مشترك يربط بينهم جميعًا، يتمثّل في أن الأدب بالنسبة إليهم يمكن أن يتحوّل إلى مرآة يرون عبرها شخصياتهم، من دون أي رتوش مُقحم.

أشدّد على كلمة "يمكن" لكون التقنيات التي بالوسع توظيفها حيال ما يُرى عبر المرآة، التي تبدو في الظاهر واحدة، لا يمكن حصرها من ناحية الرؤى المتعدّدة التي قد تترتب عليها.
من تلك الرؤى مثلاً، تلك التي يقف في صلب قراءتها على الدوام عنصر "المحورية القومية" أو "التمحور حول الذات"، بمعنى النظر إلى أيّ تطوّر من زاوية كم أن نتائجه "جيدة" لصاحب الرؤية أم سيئة له. أما مسألة ما إذا كانت هذه النتائج جيدة للغير فإنها لا تطرح قطّ. وهذه القراءة، بسمتها تلك، تحيل إلى إحدى "تقنيات المرآة" وحسب، وهي تقنية إنعام النظر في الآخر كما لو أنه ينبغي أن يكون "صورة طبق الأصل عن الذات"، مما يفتح المجال واسعًا أمام تخيّلات موبوءة وإسقاطات تشويهية تعوزها الصدقية.

ربما يشكّل الخيط الرفيع السالف إحدى جواهر الإبداع على مرّ العصور.
ويشير أكثر من مبدع عربي باللغة الهولندية، في سياق الحديث، إلى هذا الأمر من خلال الكشف عما يسمونه الهوّيات الثقافية المتداخلة بعضها مع بعض في الحياة المعاصرة، تارة في ارتباط وتآلف، وطوراً في صراع وجدل مستمرين.

يمكن الإشارة أيضًا إلى أن علاقة نصوص هؤلاء المبدعين بواقعهم هي علاقة متعدية، أنتجت وتنتج بعض الأحيان أدبًا يحلو لبعض النقّاد توصيف موضوعه بأنّه "فضائحي".


وسيكون من المثير إجراء دراسة مقارنة بين تأثير هذه العلاقة على إنتاج المبدعين العرب، في اللغات غير العربية، وبين تأثيرها على إنتاج مجايليهم من المبدعين العرب بلغتهم الأم.
سبق لي أن تابعت بعض النتاج الروائي لكتاب فلسطينيين من الجيل نفسه، ومن دون الخروج بحُكم نقديّ محدّد ارتأيت أن أستقطر مما يميّز هذا النتاج العناصر البارزة الآتية: له تعبيره الاجتماعي والثقافي وله شهادته المخصوصة على المجتمع؛ فيه انخفاض في نبرة الصراخ والأدلجة؛ ينطوي على اقتحام مناطق لم تكن الطرق إليها مشقوقة في مجال التجريب والتجديد؛ يتضمن تحدي التابوات الاجتماعية والثقافية.

وكل هذه العناصر ناجمة عن أن علاقة هذا الأدب مع المجتمع تبدو خالية من الخجل أو التنكر. ومثل هذه العلاقة تندّ عن دلالة مزدوجة: هناك، من جهة، تصالُح مع هذا المجتمع، ومن جهة أخرى هناك قدرة فائقة على نقده بصورة حادّة.

كما تتميّز لغة الكتابة بأن فيها إيحاءات، لكنها في الجوهر لغة مباشرة هي المؤهلة أكثر للتعبير عن العالم الذي تصفه باعتباره عالماً حاداً، عنيفاً، حاراً، قد تكذب أية لغة أخرى لو حاولت التعبير عنه.

ولا ننسى بالطبع عنصر الصدق في عرض الواقع.
إنه عنصر تداعى إليّ أيضًا لدى مشاهدة الفيلم التركي، "خيول برية" ("موستنغ") أخيرًا.
وهو أول فيلم للمخرجة التركية دينيز غامزي إيرغيفين، الذي تنافس ضمن مسابقة "أسبوع المخرجين" على هامش "مهرجان كان" الأخير وخطف الأضواء ولفت الأنظار إليه بقوة.
يروي الفيلم قصة خمس فتيات تركيات في سن المراهقة، تصطدم جرأتهن الفطرية بالعادات والتقاليد.

تبدأ الأحداث في إحدى القرى التركية، وفي طريق العودة من المدرسة تلتقي "لالا" وشقيقاتها الأربع بمجموعة من الصبية، فيلعب الفتيان مع بعضهم بكل عفوية، لكن ذلك يثير غضب الأهل الذين يجبرون الفتيات على ترك المدرسة وتعلم الأعمال المنزلية بهدف الزواج.
تقول المخرجة التركية، عن سبب اختيارها هذا الموضوع، إنها كانت تريد دائمًا أن تتحدّث عن وضعية الفتاة والمرأة في تركيا حاليًا، وإنها تراه موضوعًا يثير جدلاً اليوم داخل المجتمع التركي، الذي لا يأخذ بعين الاعتبار رأي النساء والفتيات.

وتضيف أنها أرادت أن تجعل من هؤلاء الفتيات بطلات، ومثالاً للشجاعة والذكاء والعزيمة، وكل تلك الصفات التي قليلاً ما يتم نسبها للنساء في السينما. وهناك نوع من التمرّد ممزوج بالجمال والحيوية والشباب.
وبرغم كون الفيلم تنديدًا بواقع، إلا أنه يحمل شيئًا إيجابيًا عندما يتتبع المشاهد الفتيات الخمس كالخيول البرية تنطلق نحو الحرية بشغف يقاوم تشدّد أسرتهن، التي حوّلت المنزل العائلي إلى سجن.
المساهمون