أفلام إيرانية جديدة

26 أكتوبر 2015
لقطة من "ملبورن" لنيما جافيدي
+ الخط -
أيمكن القول إن السينما الإيرانية تشهد، حالياً، تقدّماً ملحوظاً على مستوى صناعة صورة سينمائية تجديدية، في مقاربتها أحوال أناس؟ أيمكن عدّ مخرجين إيرانيين مقيمين في الولايات المتحدّة الأميركية مثلاً، حيث يُنجزون أفلامهم الأولى بإنتاج وتمويل متنوِّعَي المصادر، منخرطين في ما يُسمّى بـ "تجديد" بصري لسينما تتجدّد دائماً بفضل عدد من سينمائييها الفاعلين والمؤثّرين، وفي إيجاد مقوّمات إبداعها، عبر متخيّل خصب، وبراعة في الاستفادة القصوى من الإمكانات كلّها، وإن تكن متواضعة وعادية؟ ماذا عن سينمائيين إيرانيين مقيمين في بلدهم، يواجهون حصاراً سلطوياً متنوّع الأشكال، ويستمرّون، رغم هذا، في تحقيق أفلام متمكّنة من "شرطها" البصري، فنياً ودرامياً وجمالياً وتقنياً؟ 

أسئلة

تُطرح أسئلةٌ كهذه إثر "شيوع" أسماء إيرانية شبابية جديدة، تُقدّم أفلاماً أولى لها، وتصدم المشاهدين بجمالياتها المختلفة، إلى جانب استمرار سينمائيين معروفين في اشتغال يتعمّق في البيئة الحياتية ـ الاجتماعية ـ الإنسانية، وساعين دائماً إلى تحقيق سينمائيّ، يتماشى ولغة الصورة في تفكيك الحكايات وإعادة سردها، وفقاً لنظرة خاصّة بالمخرج إزاء ما يجري حوله في إيران والعالم. هؤلاء جميعهم يهجسون بالصورة الفنية وبكيفية صناعة الفيلم سينمائياً أولاً، ويذهبون بعيداً في قراءة واقع أو لحظة أو تفصيلٍ ثانياً. أي أن الهمّ الأساسي لديهم كامن في صناعة صورة سينمائية مستوفية مفرداتها وقواعدها ولغتها، قبل، أو بالتساوي مع تفكيرهم بالمواضيع والحكايات الراغبين في مقاربتها.

اقرأ أيضًا: أسئلة النقد السينمائي العربي الراهن

لن يكون "محمد رسول الله" (2015) لمجيد مجيدي (1959) الدافع إلى قراءة واقع السينما الإيرانية الجديدة والتجديدية.
فلهذا الفيلم، الذي لم يعرض خارج إيران إلى الآن، حكاية أخرى مرتبطة بـ "الفيلم الديني"، وبأصول صناعته والتزامه قواعد العلاقة الإسلامية بالصورة والتصوير، وبالرغبة في تحقيق عمل يتّخذ من نبيّ الإسلام رسالة إنسانية مخالفة للتصوّرات السلبية المُسقَطة على المسلمين وكتابهم المقدّس، في زمن الصراعات الحادّة التي يشهدها العالم اليوم. المسألة متأتية من أمكنة أخرى، وعبر أسماء بعضها عائد إلى سينمائيين إيرانيين مشهود لهم بنتاجات تساهم في تجديد لغة القول البصري في إيران، ينتمي مجيد مجيدي إليهم في مراحل سابقة، عبر أفلام مختلفة له. أسماء متمثّلة حالياً بأصغر فرهادي (1972) وبهمن قبادي (1969) وجعفر بناهي (1960) مثلاً، ويعود قليلاً إلى جيل سابق عليهم، كرخشان بني اعتماد (1954)، من دون تناسي جيل يؤسّس نقلةً نوعيةً في المسار التاريخي للفيلم الإيراني، ويأخذه إلى رحاب العالم الأوسع في الجغرافيا والإبداع والتأمّل البصري واللغة الفنية، أمثال عباس كياروستامي (1940) ومحسن مخملباف (1957) وغيرهما. أما الجيل الأصغر سنّاً، والأكثر تحرّراً من وطأة التاريخ السينمائي والتحوّلات الحاصلة فيه، فمتمثّل على الأقلّ بـ 3 مخرجين شباب، بينهم صبية تدعى آنا ليلي أميربور(المملكة المتحدة، 1980)، تقيم في الولايات المتحدّة الأميركية، وتقدّم فيلمها الأول بعنوان "فتاة تمضي وحيدة إلى المنزل"؛ ونيما جافيدي (طهران، 1970)، المتقدّم في المشهد السينمائي بأول فيلم له أيضاً بعنوان "ملبورن"؛ ورامين بحراني (كارولينا الجنوبية، 1975)، المنغمس فيلمه الأول أيضاً "99 منزلاً" بموضوع أميركي بحت، بجوانب إنسانية واجتماعية وثقافية خاصّة بـ "أرض الفرص والأحلام".

اقرأ أيضًا: احتمال سينما عربية مستقلة

كيف تُروى القصص؟

آخر أفلام رخشان بني اعتماد يحمل عنوان "قصص" (2014). يخترق المبطّن والمسكوت عنه داخل البنى الأساسية للتركيبة الاجتماعية، عبر شخصيات مستلّة من الحياة اليومية في بلد يعاني آلاماً تبدأ بالخاص، وتكاد لا تنتهي بالعام. شكلاً، يلتقي "قصص" بـ "تاكسي" (2015) لجعفر بناهي، إذ يعتمد الفيلمان على قصص مأخوذة من أفواه الناس العاديين، ومن يومياتهم المفتوحة على الحياتي واليومي والسياسي والاجتماعي والثقافي. قصص يسردها أصحابها مباشرة (تاكسي)، أو عبر شخصيات مختارة من الناس العاديين، أو متخيّلة (قصص). الاختلاف بينهما واقع في حالات أخرى: المعالجة، التحليل والتفكيك والاشتغال السينمائي. ففي مقابل سطحية المعالجة في "تاكسي"، وانهماك بناهي في تحقيق فيلمه هذا من أجل تثبيت حقّه الإنساني والفني والثقافي في العمل السينمائي، يتقدّم "قصص" بخطوات كثيرة عليه، لاهتمامه الجذريّ بكيفية صوغ الحكايات سينمائياً، بما يتلاءم مع أمرين: تحقيق فيلم يعتمد لغة الصورة، وكشف المبطّن من دون التلاعب بأولوية صناعة فيلم. بالإضافة إلى أن "قصص" بني اعتماد مصقولة بصرياً من دون التخفيف من وطأة المآزق الإنسانية التي تتضمّنها، فإذا بالمآزق هذه تنكشف على شاشة كبيرة تُصبح أشبه باغتسال بصريّ ـ روحيّ من قسوة الواقع وتفاصيله.

بعيداً عن الجانب السياسي المباشر، لم يكن "تاكسي" فيلماً "ناضجاً"، لغرقه بالمباشرة، ولاختياره سلوكاً سردياً عادياً تبقى حكاياته أهمّ وأعمق من أسلوب اشتغاله المتسرّع. هذا على نقيض "قصص"، المركّب وفقاً لسرد متتال لحكايات متفرّقة، يجمعها كلّها خيط رفيع لكنه متين في إمساكه بالحبكة والسرد، متمثّل بشخصية شاب مُصوّر يبدو كأنه يلتقط القصص تلك ليصوغها في حكاية واحدة. قصص تتناول أحوال أناس وبيئة: المخدرات وتأثيرها على البناء العائلي، مرض "فقدان المناعة المكتسبة"، العنف الزوجيّ، الاحتيال، العلاقات العاطفية المحطّمة، الحبّ من طرف واحد، الرغبة في الهجرة، البيروقراطية. أي أن المآزق لن تكون متأتية من سلطة حاكمة فقط، لأن بعضها معقود على تصرّفات فردية "تستفيد" من وظيفتها لممارسة سلطة ما على الآخرين. قصص متنوّعة تُروى بشكل متقطع، لكنها تنبني في إطار سينمائي متماسك يؤدّي إلى تشكيل وعي إضافي إزاء جمالية الصورة في معاينتها اليومي والإنساني.

في اختراق البنى المخفية في الداخل الإيراني، يكشف "ملبورن" لنيما جافيدي شيئاً كثيراً منه، عبر حكاية بسيطة للغاية، مروية بلغة سينمائية تظهر عادية وهادئة، لكنها تبرع في وضع السينما مقابل الحدث، وفي تحويل الصورة إلى مرآة تعرّي بيئة ومجتمعاً وعلاقات. فالزوجان الشابان يستعدّان للسفر، في اليوم نفسه للأحداث الدرامية للفيلم، إلى ملبورن الأسترالية لمتابعة تحصيلهما العلمي. أثناء ترتيب نهائي للأغراض المنوي أخذها معهما، ينتبه المشاهدون إلى أن طفلة صغيرة تنام في الغرفة المجاورة. فجأة، في منتصف الحكاية، يتبيّن أن الطفلة متوفاة. انقلاب جذري في المعطيات والأحداث والمسارات كلّها، تفضح خفايا مجتمع يتستّر باسم الدين أحياناً، وباسم المجتمع أحياناً أخرى، ولا يتردّد في الكذب والاحتيال للتنصّل من كلّ مسؤولية. هذا كلّه بشفافية بصرية مؤثّرة، وبلغة سينمائية هادئة، وبإدارة رائعة للممثلين، المستندة كلّها إلى نصّ مكتوب بسلاسة وعمق. بهذا كلّه، يقترب الفيلم من "انفصال" (2011) لأصغر فرهادي، المبني على مواجهة صامتة أولاً وصدامية لاحقاً بين أب/ زوج وعائلته ثم خادمته، داخل دائرة مغلقة وواحدة: المنزل. مكانٌ كهذا (وحدة المكان) يُشكّل حيّزاً أساسياً في "ملبورن" أيضاً، تماماً كـ "وحدة الزمان" المتمثّلة بيوم واحد في الفيلمين هذين.

ماذا يحدث في أميركا؟

آنا ليلي أميربور ورامين بحراني يخرجان إلى حدّ كبير جداً عن الموضوع الإيراني الاجتماعي ـ السياسي ـ الإنساني المباشر، مع أن "فتاة تمضي وحيدة إلى المنزل" لأميربور لا يخلو من نقد مبطّن وعام للموضوع هذا. "99 منزلاً" لبحراني، المتفرّغ لكتابته وإخراجه، معنيّ مباشرة بموضوع أميركي بحت: الوحش العقاري وسعيه الدؤوب إلى تحطيم الفقراء، وطردهم من منازلهم المشتراة بفضل قروض ينقضّ عليها البعض لمصالحه المالية الشخصية. المعالجة سينمائية مستندة إلى توتر جمالي في سرد حكاية التحوّل الفظيع للشخصية الأساسية من "مطرود" من منزله إلى "عامل" في خدمة "طارده" نفسه، قبل أن يتفوّق عليه بوحشيته المنبثقة من وحشية المصالح الرأسمالية العقارية المالية المشتركة. في حين أن فيلم أميربور معقودٌ على الحكاية الأصلية لمصّاص الدماء، المتمثّل هنا بفتاة تجوب شوارع مدينة معتمة ومجهولة الهوية (وإن تدلّ إشارات قليلة إلى أنها مدينة صناعية)، وتدافع عمن تراه مظلوماً، وتساعده في النيل من ظالمه، قبل أن تُغرم بشاب له ملامح جيمس دين وتمرّده.

اقرأ أيضًا: هموم الكتاب السينمائي العربي

لن يكون هناك إسقاط تحليلي يؤدّي إلى القول إن في الفيلمين "انتقاداً" لسلوك إيراني عام. فالأهمّ كامن في مسألتين: أولاً، إن الفيلمين إيرانيان على مستوى الهوية الأصلية للمخرِجَين. ثانياً، إن المخرِجَين نفسيهما يصنعان ما هو سينمائيّ بحت، ويعملان على جعل الصورة السينمائية مرايا تفضح المبطّن أو بعضه، وتعرّي الذات الفردية، وتجعل النصّ إبداعاً يروق للعين والروح والانفعال.

(كاتب لبناني)
المساهمون