حياة بلير: رفاهية الملوك وتجميل صورةِ الديكتاتوريات

14 سبتمبر 2015
(لندن: جون بلاك المحدودة للنشر، 2015)
+ الخط -
في ديكتاتوريات العالم الثالث، لا يمثل تزاوج السلطة بالمال عبئاً على رجال الدولة، لكن في ديمقراطيات العالم الحرّ تحوم الشبهات حول أي مسؤول سابق يتحول إلى رجل أعمال. وإذا أحيطت أعماله الخاصة بالسرّية الشديدة، فأول ما قد يتهم به هو استغلال نفوذه وعلاقاته التي بناها عبر ذلك المنصب في كسب المال.

مؤسسة "توني بلير" رئيس الوزراء البريطاني الأسبق تعدّ مثالاً على ذلك؛ إذ هناك العديد من الملاحظات التي تجعلها مثيرة للريبة وعرضة للشبهات. ورغم أن صفقات تلك المؤسسة تتم من خلال عدة كيانات قانونية تديرها مجموعة من أكبر المحامين، وتقدم لعملائها من الدول والأنظمة خدمات الاستشارات والوساطة بين الجهات الدولية المختلفة في مقابل عمولة ضخمة، فإن تلك الصفقات مجهولة للجميع.

في كتاب " مؤسسة بلير: الرجل خلف القناع" حاول مؤلفوه الثلاثة (فرانسيس بيكيت، ديفيد هينك، نك كوتشان) بحث أسباب السرّية البالغة التي تحيط بالمؤسسة، والتي تحاول جهدها ألا تكشف مصادر الدخل للسياسي السابق، بل إنّ أبسط المعلومات يتم التعامل معها باعتبارها أسرارا، ورفض جميع ممثلي المؤسسة والعاملين فيها، سابقين أو حاليين، الإفصاح عن شيء، فالجميع قد وقع على اتفاقية للحفاظ على السرية بمن في ذلك المتدربون، بل وصل الأمر بالرجل إلى أن يرفض مقعداً في مجلس اللوردات؛ لئلا يضطر لرفع السرية عن إيراداته.

البقاء للأغنى
في ثنايا الكتاب واقعة أثرت في مجرى حياة بلير، فبعدما ترك منصبه وأثناء خروجه من محطة قطار دارلينغتون هو وأسرته، توجهوا ناحية أفخم سيارة بموقف السيارات، كما تعودوا، ولكن همس مرافقوه في أذنه بأنها ليست لهم، بل تنتظرهم أخرى عادية. ربما في تلك اللحظة اتخذ بلير قراراً بألا يتعرض لمثل هذه المهانة ثانية. وأن من هذه اللحظة ستكون أفضل سيارة في المكان هي التي تنتظره.

غادر بلير منصب رئيس وزراء بريطانيا، وتخلى أيضا عن دوره نائباً برلمانياً عن دائرة سيجفيلد. وأعلن عن قبوله لمهمة المبعوث الخاص للرباعية الدولية في الشرق الأوسط، وهو القرار الذي افتتح به حياة مهنية جديدة. ويذكر الكتاب أن تعيين بلير في مهمته الجديدة لم يكن أمرا عفويا، فإدارة بوش دفعت باتجاه هذا التعيين، بل إنّ بوش أصر على ذلك قائلاً: "إن بلير ضحى بوظيفته السياسية من أجلي". وبينما لاقى ذلك التعيين ترحيبا واستحسانا من الحكومة الإسرائيلية، فإنّ أحداً لم يسأل الفلسطينيين، أصحاب القضية، عن رأيهم في الأمر!

إلى العالم الثالث
ضاعت طموحات بلير في الحصول على منصب رئيس الاتحاد الأوروبي، فمنافسوه كثر وأشد منه قوة، لذا اتجه إلى الشرق الأوسط الغني بالبترول والسلطة، فلم يكن الحكام في المنطقة يريدون الرجل لذاته، بل يريدون اتصالاته وعلاقاته التي بناها في منصبه السابق؛ وكان شعارهم: إذا أردت فتح باب سياسي مغلق، أو استشارة مهمة؛ فاتصل ببلير!

يرصد الكتاب كيف تحول بلير إلى مروّج أعذارٍ، ومجمّلٍ لصورةِ المستبدين حول العالم، وتحوي القائمة العديد من أشهرهم في بلدان أفريقيا وآسيا والدول العربية. ولعل من تلك العقود المريبة ما وقّعه في كازاخستان مع (نور سلطان نزار باييف) لتبييض صورة الحاكم الدموي، الذي تفجرت أنهار البترول تحت قدميه. وفي علاقة بلير بنزار باييف الكثير من الفضائح.

مؤسسة توني بلير للإيمان (Tony Blair Faith Foundation) من الكيانات التي أنشأها ويديرها بلير، لكن ذلك الإيمان لم يشكل له عائقا أمام تعاقده مع الحكومة العسكرية في بورما، الذين سجنوا السياسية أونغ سان سوكي بعد فوزها بالانتخابات، والذين امتلأ العالم بأخبار اضطهادهم لأقلية الروهينغا المسلمة.

استشارات قاتلة
بعد الإطاحة بنظام القذافي، عُثر في طرابلس على أوراقٍ تكشف عن أنّ بلير عقدَ ستة لقاءات خاصة على الأقل مع الديكتاتور الليبي، خلال الثلاث سنوات التالية لترك بلير رئاسة الوزراء، والتي من المحتمل أنها شجعت القذافي على استنتاجه الخاطئ بأن الغرب لن يتخذ إجراءً ضده!

بلير في أفريقيا
أفرد الكتاب حيزاً كبيراً لمنظمة خاصة بأفريقيا أنشأها بلير، حيث رصد دورها في أزمة الإيبولا في غينيا، وذكر جهودها في تنظيف آثار مذبحة رواندا، فمؤسسة بلير كان لها عدة موظفين يعملون في قلب نظام الرئيس، بول كاجامي، الرجل الذي اتهمته منظمة هيومان رايتس ووتش بارتكاب الفظائع، وقالت المنظمة إنّ دعم بلير لكاجامي هو ما حرض الرجل على إفساد الانتخابات وقمع المعارضة والإعلام. كاجامي المتهم بالتطهير العرقي، والذي كان يتبجح بأنه منقذ رواندا ومخلصها، رغم أنه يترأس حزب الجبهة الوطنية الرواندية الحاكم، الذي قتل 200000 رواندي.

لم يكن بلير يهتم بسلام الشرق الأوسط، فرغم زعمه أنه يقضي أسبوعا كل شهر في المنطقة من أجل عملية السلام؛ فإن الحقيقة كما يسوقها الفلسطينيون أنه كان يصل مساء الإثنين ليغادر صباح الثلاثاء مباشرة، وتقول الدكتورة، حنان عشراوي، إن بلير لم يكن يبلغها بتقريره ولو مرة شهرياً!

آلة عد النقود
ذكرت صحيفة الديلي ميل أنّ "بلير تحول إلى آلة لعد النقود"، فلم يعد بلير يصنع شيئا سوى صنع المال، أيّاً كان مصدره وطريقته. فجمع ثروة تقترب من 80 مليون إسترليني، إلى جانب ثروة عقارية قيمتها تتجاوز 25 مليون إسترليني. لقد نفذ بلير قراره بألا يتكرر ما حدث خارج محطة قطار دارلينغتون، فجمعَ المال ولا يزال، وعاش حياته في رفاهية الأثرياء والملوك!

(كاتب مصري)
المساهمون