وباء كورونا: العالم يشبه غزة والأخيرة لا تشبه أحداً

25 ابريل 2020
تعقيم في غزة (العربي الجديد)
+ الخط -

مع انتشار فيروس كورونا وبدايات وصوله إلى دول الشرق الأوسط، من المرجح أن فكرة نازية قد راودت مخيلة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. لو كان بالإمكان أن يفتك الفيروس بالفلسطينيين فقط، ويحل بذلك المعضلة الأبرز التي واجهت الدولة الاستيطانية الإسرائيلية منذ نشأتها عام 1948 والمتمثلة بالسيطرة على الأرض من دون سكان. ولكن الحقيقة أن لا أحد بمعزل عن الإصابة بهذا الوباء العالمي، لا إسرائيل المتبجحة بتفوقها العسكري و"الحضاري" على دول الجوار، ولا قطاع غزة المحاصر براً وبحراً وجواً منذ 13 عاما.

ومع طول فترة "العزل" و"الحجر المنزلي" لمعظم سكان الأرض في مواجهة كورونا، وما يترافق مع ذلك من اضطرابات اقتصادية واجتماعية ونفسية، يتعرف العالم على شيء من الحياة اليومية لسكان القطاع منذ عقد ونيف. إذ يطبق الحصار عليهم وتُحتجز حرية التنقل وتنتشر البطالة والمرض، ويسود الخوف من المستقبل ويعاني أكثر من نصف الأطفال من اضطرابات نفسية وسلوكية. وفيما تدعو دول العالم مواطنيها للعمل من المنزل التزاماً بالحجر الصحي، ابتكر الغزاويين هذه الظاهرة منذ وقت طويل للتحايل على الحصار الإسرائيلي، الذي يدمر الاقتصاد ويعيق دخول الاستثمار الأجنبي. إذ يعمل كثيرون من منازلهم
عبر شبكات الإنترنت لصالح شركات عربية او أجنبية، وبشكل خاص في مجال التطوير البرمجي وإدارة البيانات. العالم يشبه غزة في كثير من الأمور اليوم، باستثناء أن الأخيرة تبقى المكان الأكثر هشاشة في مواجهة هذا الوباء.

 

الزائر الثقيل يخترق الحصار ويصل متأخراً

بعد أسابيع من عدم تسجيل أي حالة إصابة، وصل الفيروس إلى قطاع غزة في 21 مارس/ آذار الحالي عبر مسافرين قادمين من باكستان. ومن المرجح أن تتصاعد الأعداد بمرور الأيام رغم الإجراءات المشددة التي اتخذتها حكومة حركة حماس التي تدير القطاع.

في الحديث عن استعدادات الدول للتصدي لوباء كورونا، يظهر مستويان من القدرات المطلوبة. يتعلق الأول بقدرة الحكومة على اتخاذ وتنفيذ التعليمات والقوانين الخاصة بمكافحة الوباء، مثل منع التجمعات والتجول غير الضروري في الشوارع والحجر الصحي. أما المستوى الثاني فيرتبط بقدرات مؤسسات الدولة بصورة عامة والقطاع الصحي بشكل خاص.

على المستوى الأول، استطاعت حكومة حركة حماس اتخاذ خطوات سريعة، نوعاً ما، استبقت وصول الوباء وتمكنت من وضعها موضع التنفيذ. يشمل ذلك إغلاق الجامعات والمدارس والأسواق والمطاعم والمقاهي وإلغاء صلاة الجمعة. كما فرضت الحجر المنزلي على القادمين للقطاع عبر معبر رفح. وعندما ظهر عدم التزام بعضهم بهذا القرار، أنشأت الحكومة نحو عشرين مركزاً للحجر الصحي، معظمها في مباني المدارس المتوقفة عن العمل، وجعلت الحجر الصحي إجبارياً لجميع القادمين. ولدى اعتراض السكان على وجود تلك المراكز في أحيائهم، كما حدث في حي النصر شرقي رفح، جرى قمع تلك الاحتجاجات بالقوة واعتقال العشرات.

خلال مواجهة الفيروس، تحدث كثيرون عن "ميزة" لدى الدول المركزية غير الديمقراطية تمكنها من فرض الإجراءات الجديدة بصورة سريعة وحاسمة، مقارنة بنظيراتها الديمقراطية، وذلك بسبب استخدام القمع وانتفاء الحاجة لمراعاة حقوق الأفراد أو الحصول على موافقة البرلمان أو حتى الالتزام بالدستور. ولا يبدو أن قطاع غزة، بإدارة حركة حماس، يفتقد لهذه "الميزة". ولكن الحقيقة تبقى أن القمع وإغلاق الحدود لن يحمي أي بلد من الوباء سريع الانتشار، بل تلعب كل من البنية التحتية العامة وقدرات ودرجة تطور القطاع الصحي الدور الأكبر. هنا يبدو قطاع غزة المكان الأكثر هشاشة على كوكب الأرض.

يعتبر قطاع غزة، الذي يختنق بنحو مليوني نسمة، من أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان حول العالم. كما يعيش أكثر من نصف مليون فلسطيني في ثمانية مخيمات بظروف معيشية وصحية سيئة. هنا تنتفي فاعلية أول إجراء دولي يتبع على نطاق واسع اليوم، وهو ما يسمى بـ"التباعد الاجتماعي". ولا تساعد الإمكانيات المالية المتواضعة لحكومة قطاع غزة، أو شح المعونات 
الدولية، على تقديم مساعدات مالية شهرية كمقدمة لإجبار السكان على التزام منازلهم، كما فعلت الكثير من دول العالم. فحتى من دون إجبار الغزاويين على ترك العمل، بما يفقدهم مصدر دخلهم الشحيح، يعاني ثلثا السكان سوء التغذية وتآكل العظام وضعف المناعة بسبب افتقاد الحدود المقبولة من الغذاء. ورغم إعلان دولة قطر عن تقديم 150 مليون دولار على مدار ستة أشهر، ليس كورونا بالزائر الخفيف. إذ يتوقع الخبراء أن تستمر المعركة معه لفترة طويلة سوف تستنزف ميزانيات أغنى دول العالم، فكيف الحال بقطاع غزة.

بهذا المعنى، تركزت الخطة الحكومية خلال الأسابيع الماضية على منع وصول الفيروس إلى القطاع، بسبب إدراك القائمين عليه أن مجرد وصوله سوف يعني خروجه عن السيطرة. إذ يعاني القطاع الصحي من سنوات الحصار التي أنهكته ومنعت عنه الموارد الضرورية.

تضطلع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين بالدور الأكبر في تقديم الخدمات الصحية لسكان القطاع، فيما تدير حكومة حماس أقل من 35 في المئة من العيادات والمشافي. ولكن الوكالة الدولية تعاني من نقص حاد بالموارد، وأعلنت أنها بحاجة لـ15 مليون دولار بشكل طارئ لمواجهة الوباء، وخصوصاً بعد أن شاركت إدارة دونالد ترامب في حصار القطاع 
وأوقفت مساهمتها في تمويل وكالة غوث اللاجئين.

في الوقت الحالي، يعاني القطاع الصحي من نقص حاد على مستوى مواد التعقيم والأقنعة الواقية ووحدات العناية المركزة، وجميعها معدات ضرورية لعلاج المصابين. هنالك فقط 64 جهاز تنفس يشغل معظمها مرضى سابقون. تقدر منظمة الصحة أن القطاع يحتاج إلى مئة جهاز إضافي على الأقل، كما أن قدرته على إجراء فحص الفيروس لتحديد المصابين تقتصر على 200 فحص فقط. وتعتبر القدرة على إجراء فحص الفيروس بأعداد كبيرة وبسرعة أحد أهم عوامل ضبط واحتواء انتشاره، فتلك الدول التي امتلكت هذه القدرة، كالصين وتايوان وكوريا الجنوبية وألمانيا، كانت أكثر فاعلية في احتواء المرض وتقليل أعداد الوفيات. ولكن، إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية تعاني على هذا الصعيد، فيمكن تصور وضع قطاع غزة.

 

غزة لا تحتاج لمزيد من "الحجر" بل لرفعه

تبقى الحقيقة أنه وبالضد من كل دول العالم المهووسة بالحجر وإغلاق الحدود، فإن قطاع غزة يحتاج إلى التخلص من الاحتلال ورفع الحصار حتى يمتلك الحد الأدنى من شروط مواجهة الوباء. يعطل الحصار الأعمدة الستة الرئيسية في أي نظام صحي فعال بحسب معايير منظمة الصحة العالمية: الحكومة الفاعلة، التمويل الكافي، الكوادر الطبية، المعدات والتكنولوجيا الطبية، المعلومات والأبحاث، وتقديم الخدمة الصحية. تمنع دولة الاحتلال حكومة القطاع والسكان من الوصول إلى تلك الموارد بمثابرة مدهشة، وذلك منذ زمن بعيد يمتد إلى احتلال القطاع في عام 1967، ولكنه تكثف بعد فرض الحصار في عام 2007.

وبينما تتهم السياسات الليبرالية في العالم بإضعاف القطاع الصحي العام من خلال خصخصته أو من خلال تخفيض الإنفاق الحكومي، وهو ما أضعف من قدرات الدول على مواجهة وباء كورونا، يفعل الحصار ذلك في قطاع غزة. إذ دمرَت سنوات الحصار القطاع العام وأقفلت أفق تطوره التدريجي، دافعةً لاستبداله بالقطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية، ويشمل ذلك المنظمات التابعة للأمم المتحدة وجميعها مرهونة بالتمويل الغربي.

إن أثر الحصار لا يقتصر على نقص المعدات الطبية والدواء والأقنعة ومواد التعقيم كما هو حاصل فعلاً اليوم. إذ يعتمد القطاع الصحي على تدفق مستمر للمياه النظيفة والكهرباء وهو ما يعاني منه القطاع المحاصر منذ سنوات. تشير تقارير عديدة إلى انقطاع التيار الكهربائي وعدم توفر الوقود بصورة دائمة لدى المشافي لتوليد الكهرباء. كما حذرت منظمة الصحة العالمية، قبل انتشار الفيروس بنحو عامين، من أن أكثر من مليون شخص في قطاع غزة معرضون لخطر 
الإصابة بأوبئة، مثل التيفوئيد والكوليرا، تنقلها المياه الملوثة. وبحسب تقرير لمؤسسة رند، فإن 97 في المئة من مياه غزة تعتبر ملوثة. وفي حين يشكل هذا التلوث مصدر خطر كبير لانتشار فيروس كورونا، فإنه يطرح التساؤل حول قدرة المشافي، المنهكة والضعيفة والتي تفتقد الموارد والمعدات، على احتواء وباء بهذا الحجم.

لقد قدرت الأمم المتحدة في عام 2012 أن قطاع غزة لن يكون قابلاً للحياة في العام 2020. ولكن عالماً بهذا القدر من القسوة والتوحش تجاه الطبيعة والفئات الأضعف من سكانه لن يكون صالحاً للحياة هو الآخر في يوم ما. يذكرنا وباء كورونا أن هذا اليوم لم يعد يبدو بعيداً.