غزة ومسيرات العودة والتهدئة

26 اغسطس 2018
+ الخط -
نجحت غزة في أن تكون الخبر الأول والحدث الأبرز، عادت واستعادت وأعادت القضية الفلسطينية للواجهة، بعد أكثر من عقد من الحصار وثلاث حروب وإغلاق بري وبحري وجوي، خرجت غزة لتعلن أنها حية باقية مستمرة، خرجت وأخرجت مسيرات العودة التي بات وقفها شرط الشروط للتهدئة، أو كمبادرة محلية أو إقليمية أو حتى أممية.
غزة التي خرج منها أرييل شارون، في عام 2005، وتمنى من قبله إسحاق رابين أن يصحو ويجدها قد غرقت في البحر، أصبحت اليوم الكابوس الأول لبنيامين نتنياهو والتحدي الأكبر لأفيغدور ليبرمان. لم تغادر غزة خطاب نتنياهو وأجندة جنرالاته. غزة التي صنعت معادلات الردع، وردت على النار بالنار والقصف بالقصف. تعود اليوم بملحمة مسيرات العودة ورفع الحصار التي يستدار عليها الآن ويراد وقفها، حتى باتت الشغل الشاغل للأمم المتحدة ومبعوثها، نيكولاي ميلادينوف، ولكل الوسطاء.
استطاعت مسيرات العودة أن تضع غزة على مسار التفاعلات والأولويات لتصبح فاعلا إقليميا ودوليا وتحديا تصنع من أجله التحالفات والضغوط. وقد كشفت صحيفة معاريف عن وجود ضغوط مصرية - سعودية على حركة حماس في غزة، لوقف مسيرات العودة على الحدود مع إسرائيل، مؤكدة أن هناك اتصالات مصرية مكثفة مع حركة حماس في غزة، لإقناعها بوقف مسيرات العودة، مقابل فتح المعبر، وأن فتحه سيكون فقط مقابل وقف مسيرات العودة.
تقول الصحيفة إن مصر، وبتكليف من السعودية، تمارس ضغوطات كبيرة على حماس، لوقف مسيرات العودة الأسبوعية، التي سببت الحرج الكبير للقاهرة والرياض، حيث تعملان على تمرير صفقة القرن، مقابل رفض الفلسطينيين لها. الحرج أنّ هذه العواصم تقدم نفسها لإسرائيل ولترامب على أنها قادرة على التحكم في تلابيب المشهد العربي والفلسطيني، لكن مسيرات العودة برهنت على العكس.
تطورت مسيرات العودة حتى بدت كقنبلة هيدروجينية، كما وصفتها صحيفة الأوبزرفر البريطانية في مقال كتبه سيمون تيسدال، يحذر فيه من أن الأحداث على الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة- ويقصد مسيرات العودة- على وشك الانفجار، وأنها قد تؤدي إلى هدم بيت الشرق الأوسط كله. هذه قنبلة سلمية لم تتوقع إسرائيل يوما أن غزة قد تستخدمها وتستدير للمسيرات السلمية والشعبية على الحدود.
الحراك العربي والأممي والدولي الحاصل في غزة ومن غزة وإلى غزة، لم يكن بهدف رفع الحصار الممتد منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، ولم يكن لمصلحة أو لضرورة إنسانية، جزء من الحراك هو خشية إسرائيلية من التبعات ومحاولة لوقف المسيرات التي كان البعض يظن أنها ستنتهي بعد يومين أو جمعتين فقط، لكنها اليوم أجبرت إسرائيل على الاقتناع بأنه لا بديل عن التواصل مع حماس. وهو ما أوصى به الجنرال أورن شاحور، المنسق الأسبق لشؤون المناطق الفلسطينية في التسعينيات، والذي قال في صحيفة معاريف إنه لا يمكن الخروج من الفوضى من دون الحوار مع حركة حماس، رغم إقراره بأنها منظمة معادية، لكن يجب الاتصال بها ومعها، وما لم يحدث ذلك فإن مسيرات العودة ستبقى مستمرة.
إقرار الجنرال بضرورة الاتصال بحماس لا يعني وقف مسيرات العودة فقط، لكنه يعني إقرار إسرائيل بشرعية حماس، وهذا معنى ممتد وعميق وتأثيراته كبيرة. ويعني، في أحد المعاني، أن حصار غزة لم يكن شرعيا وكان بمثابة إعلان حرب، وأن كل التقديرات الإسرائيلية منذ عام 2007 كانت خاطئة.
ولكن السؤال: لماذا الاشتراط بأن أية حراك يجب أن تتوقف مسيرات العودة قبل بلورته، حتى لو كان تهدئة ورفع حصار؟ ما الذي أحدثته مسيرات العودة؟ هل لأنها فقط أعادت القضية الفلسطينية للواجهة، أم لأنها الحجر الوحيد الذي ضربوا به مجموعة أهداف، أهمها صفقة القرن وتجاوز تبعات الانقسام، وتزامن الإعلان عنها مع يوم الأرض، وبالتالي ربطت الأرض بالإنسان وأعادت حضور حق العودة الذي غيّبه اتفاق أوسلو؟
لقد بدت مسيرات العودة كمبادرة شعبية بعيدة عن الحسابات الفصائلية، وبالتالي لا يملك أي طرف وقفها، وإذا استمرت سيكون من الصعب احتواؤها وتدارك توابعها، التي من أهمها إعادة القضية الفلسطينية إلى واجهة واهتمامات وأجندات المجتمع الدولي. بطريقة سلمية، يلوّح فيها الفلسطيني بالعلم، فيرد عليه القناص الإسرائيلي بالنار.. هذه الصورة لم تكن ولم تشأ لها إسرائيل أن تستمر، خاصة في المجتمعات الغربية. خاصة بعدما كانت تروّج روايتها أن قطاع غزة كيان معادٍ وارهابي ولديه ترسانة عسكرية وأنفاق وصواريخ وازنة تقوم فقط بالرد على عداء غزة، حتى شاهد العالم ما يحدث، وكانت رسالة مسيرات العودة أنّ على المجتمع الدولي وعلى الاحتلال أن يتحمّل كل طرف مسؤولياته، وأن إسرائيل يجب أن تحاسَب على جرائمها.
مسيرات العودة أعادت الروح إلى القرار الأممي 194 الخاص بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم، ونقلت النقاش مجددا إلى أروقة الأمم المتحدة، بعدما اعتدت إسرائيل على المتظاهرين السلميين المطالبين بحقهم المشروع بالعودة إلى فلسطين وكسر الحصار.
مسيرات العودة أنزلت قادة الاحتلال والحالمين فيه، وعلى رأسهم نتنياهو وليبرمان، إلى الواقع، وأنزلتهم من برجهم العاجي الواهم؛ المستند إلى عصر من التطبيع والتصهين وصفقة قرن ستحولهم إلى الوكيل الحصري في الإقليم، ليمدوا أذرع النهب والسلب إلى ثروات العالم العربي وخزائنه.
مسيرات العودة أربكت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية التي تدرك محدودية قدراتها على مواجهة التجمعات السلمية، وتعلم أن العواقب وخيمة ستمتد إلى الضفة الغربية، عاجلا أم آجلا، ما يجعلها أمام خيارات صعبة، سواء كانت بالتصعيد أو بالاستسلام لهذه التجمعات الحاشدة التي ستتحول إلى نموذج في الإقليم والعالم. فضلا عن التداعيات القانونية التي ستتعرض لها إسرائيل أمام المحاكم الدولية، بفعل المجازر التي ارتكبتها بحق متظاهرين سلميين.
يعدد يوني بن مناحيم ما فعلته مسيرات العودة، قائلا إنها أعادت القضية الفلسطينية وحق العودة إلى أجندة السياسة الدولية والإقليمية، وتسببت في إحراج إسرائيل في الساحة الدولية، لا سيما بعدما صور الفلسطينيون جنود إسرائيل وهم يطلقون النار ليقتلوا العزّل ويصيبوا 1400 فلسطيني في يوم واحد. وأعادت مسيرات العودة موضوع حصار غزة والأزمة الإنسانية المستمرة منذ أكثر من عشر سنوات ومن دون أن يتحرك أحد من قبل، وهو الحصار الذي أفضى إلى وفاة العشرات بسبب نقص الأدوية واستمرار إغلاق المعابر.
مسيرات العودة عطلت صفقة القرن، فلم يعد ممكنا تنفيذها والانتقال إلى مراحلها من دون وقف مسيرات العودة. والأهم أن هذه المسيرات أعادت الطابع الشعبي للصراع الذي يخوضه الشعب الفلسطيني من أجل حريته وأرضه وتحرره. وأنه شعب يعيش النكبة منذ سبعين عاما. والأهم أنّ مسيرات العودة كشفت زيف الرواية الصهيونية لشعب بلا أرض وأرض بلا شعب.
سيلتف العالم على غزة من أجل وقف مسيرات العودة، وسيلوّح بإغلاق المعابر وبالحرب. لكن الورقة الرابحة والجدار الأخير هو مسيرة العودة، وستبقى غزة قادرة على اجتراح المعجزات، وستبقى كابوساً يلاحق الاحتلال، والحذر الحذر أنّ يفضي الحراك صوب غزة وفصائلها الآن لوقف مسيرات العودة، سنبدو حينها كمن يلقي بسيفه وسط المعركة.

(أكاديمي من غزة)
المساهمون