مرّ 71 عاماً على طرد أهالي قرية أم الشوف، في حيفا، منها. من كان صغيراً يومها بات مسناً، ومعظم أبنائها ولدوا خارجها في جنين وغيرها. لكنّ الأجيال جميعاً تحلم بالعودة إلى أرض يسمّونها "الجنة"
قبل خمسة وعشرين عاماً، جلب الفلسطيني إبراهيم أحمد سعيد سمور (72 عاماً)، بعض التراب من أرض قرية أم الشوف في حيفا، مسقط رأسه الذي هجّر منه وعائلته عام 1948 ليستقر بهم الحال في مدينة جنين ومخيمها، شمالي الضفة الغربية، مصمماً على حقه في العودة حتى لو كان ذلك في زمن أحفاد أبنائه. كان سمور، أبو محمد، الذي يعمل فني مختبر أسنان في مدينة جنين، في زيارة إلى قريته المهجرة، يومها، إذ كان يُسمَح لأهالي الضفة الغربية بالدخول إلى المناطق المحتلة عام 1948 من دون الحاجة إلى تصاريح. وضع التراب في كيس بلاستيكي. يواصل أبو محمد تمسكه بحفنات التراب الغالية، ويخرجها بين الحين والآخر كي يشاهدها هو وأبناؤه وأحفاده باستمرار، وهو يصر على أنّ الحق مهما طال الزمن يجب أن يعود إلى أصحابه، وفق ما يقول لـ"العربي الجديد".
بالرغم من أنّ أبا محمد لا يتذكر شيئاً من قريته ذات عيون الماء والأرض الخصبة، إذ هجر مع عائلته حينما كان عمره نحو عام ونصف فقط، فإنّ ما حدثه به والداه وأعمامه وأقرباؤه كان كافياً لأن ينمو حب تلك الجنة في قلبه، كما يحب أن يطلق على قريته أم الشوف، بل يستمر ذلك في تربية أبنائه وأحفاده على حبّ قريتهم. وهكذا كان يواصل زيارة القرية ويبكي أطلالها كلما حانت له الفرصة بعد العام 1967.
أجيال
في أول زيارة له إلى قريته، بعد العام 1967، اختلطت المشاعر لدى أبي محمد، ومعها لم يقدر على منع البكاء. بكى طوال ساعتين بالرغم من أنّه لم يعش فيها، ولم يتعب في أراضيها. يتساءل: "أنا لم أعش حياتي فيها، فما هو شعور من عاش؟ أعانهم الله وجبر خواطرهم. لقد تعرفت من خلال أقاربي على أراضينا الجميلة". يستدرك: "بل هي جنة وليست جميلة فقط".
الترابط بين الأهالي كان قوياً جداً في تلك القرية، فالجميع يحاول المشاركة في استقبال أيّ ضيف في منزله، بل إنّ عادات التعاون والتكافل في ما بين الأهالي بلغت حدّ تقديم الذبائح من الأغنام لبعضهم البعض، وكذلك الألبان في أوقات إعداد ولائم العرس والعزاء، فلم يكن العريس يخسر شيئاً. وبالرغم من مرور 71 عاماً على النكبة، ما زال الترابط قوياً بين الأبناء والأحفاد، فيزورون بعضهم البعض. كان أهالي أم الشوف يأملون بالعودة إلى قريتهم بعد أيام أو ربما أسابيع، وظل ارتباطهم بقريتهم قائماً، بل إنّ بعضهم تركوا كثيراً من ممتلكاتهم الشخصية في منازلهم التي هاجمتها العصابات الصهيونية وهدمتها.
الشيخ أحمد سمور، والد إبراهيم، والذي كان إمام مسجد قرية أم الشوف، ويعمل معلماً في الكتاتيب هناك، أصر بعد النكبة بأشهر على زيارة القرية، عدة مرات. وفي إحدى المرات ذهب إلى أرضه ليتفقد أشجار الزيتون، وإحضار كتبه عندما اكتشفت العصابات الصهيونية أمره ورفاقه، وبدأت بإطلاق الرصاص عليهم، فاختبأوا بين الشتول والأشجار البرية. أشيع يومها خبر استشهاد الشيخ أحمد سمور، لكنّه نجا وعاش بعد ذلك نحو 12 عاماً.
أم الشوف لا يمكن لسمور أن ينساها، وإن لم يعد يسمح له بلقائها. يصر على أنّ أبناءه أو أحفاده سيعودون إليها، فالحق يجب أن يعود لأصحابه. يتمنى أن تسمح له الظروف بأخذهم جميعاً إليها ليشاهدوها عن قرب ويعرفوا أراضيهم.
أم الشوف التي كانت عامرة بخيراتها وأشجارها المتنوعة وخصوبة أراضيها ووفرة المياه فيها، كانت إحدى القرى التي تجمع سجلات جميع أراضيها قبل النكبة، وقبل أن تهدم منازلها، ويبني الصهاينة على أنقاضها مستوطنتي زخرون يعقوب، وجفعات نيلي، وهكذا حلّ الاحتلال مكان الأهالي الآمنين، الذين ماتوا بحسرتهم، كما يقول أبو محمد.
المفاتيح ذاكرة الأجيال (عصام الريماوي/ الأناضول) |
في عيون الأهل
أما سري سمور، وهو ابن شقيق إبراهيم، المولود في مخيم جنين، فإنّه يؤكد لـ"العربي الجديد"، أنّه مهما بنى من علاقات في جنين ومخيمها، فإنّ الشوق والحنين إلى أم الشوف ما زال قائماً، فاللجوء والاقتلاع من الأرض صعبان جداً. ما زال سري يحفظ ذكريات وحكايات أم الشوف، فهو يعرف أنّ قريته التي هجّر أهله منها استشهد فيها 70 شخصاً، من بينهم 3 شهداء من أبناء القرية، حينما هاجمتهم العصابات الصهيونية، لإرهاب الأهالي ودفعهم إلى الهجرة من قراهم. وما زال يردد قصة جده الذي رفض بادئ الأمر التهجير، وحين هجمت العصابات الصهيونية اضطر لترك القرية، ولم يأخذ غير بعض رؤوس من ماشيته، وبعض كتبه، واتجه نحو أم الفحم القريبة. ثم استقر به الأمر باتجاه قرية السيلة الحارثية، غربي جنين، وأخيراً استقرت عائلات أم الشوف في جنين ومخيمها وفي الأردن. تمسك الأهالي بأم الشوف دفع الشيخ أحمد سمور، حينما كان في السيلة الحارثية، إلى تسجيل أراض مما يملك في القرية باسم ابنته كهدية زواج واسم زوجة ابنه كجزء من المهر، إذا ما تمكنوا من العودة.
حكايات أم الشوف، ما زالت في ذهن محمد أحمد صباح (54 عاماً)، كما يقول لـ"العربي الجديد". أبو سامر يسكن في مدينة جنين، لكنّه يرسخ حب القرية الأولى في أبنائه، وهو ما يفعله أشقاؤه: "ولا بدّ من العودة إلى أرض الوطن". في نهاية سبعينيات القرن الماضي، زار صباح أم الشوف، حينما كان في الرابعة عشرة. يتذكر من تلك الزيارة عين الماء وشجر الخروب والزيتون المعمر والعنب. كانت المرة الأولى التي يدخل إلى قريته، وكانت الدهشة ملازمة له في رؤية المكان، واليوم، يلازمه الحنين والشوق إلى أم الشوف، كي يعيش فيها.
أما تيسير أحمد محمد صباح، أبو فادي (69 عاماً)، وهو طبيب يسكن في مدينة جنين، فقد اعتاد أن يربي أبناءه وأحفاده على أنّ لهم قرية أصلية هي أم الشوف، فالقرية هي التاريخ والذكريات، ولو قدّر له أن يعود إليها سيعود. يقول لـ"العربي الجديد": "هذه أرضنا، أحدّث أبنائي وأحفادي عنها وعن سلب الصهاينة لها. لا بدّ لهم من أن يتعلقوا بقريتهم ويؤمنوا بحق العودة". كان تيسير قد زار مع والديه في ثمانينيات القرن الماضي، قريتهم أم الشوف، وما زال يذكر مشهد البيوت المهدمة. كان والداه يتفقدان الأراضي، ويرويان كيف زرعا هنا شجرة تين وهناك شجرة زيتون وعنب: "كنت أنظر من خلال عيون والديّ ودموعهما وما فيها من حسرة وألم على أراضينا المحتلة".
قبل النكبة
تقع أم الشوف إلى الجنوب الشرقي من قضاء حيفا على بعد 30 كيلومتراً من المركز؛ مدينة حيفا، سميت بهذا الاسم لأنّ موقعها ظاهر ومرتفع، وتعني "الشوف" رؤية المناطق المحيطة بها. ترتفع 125 متراً عن سطح البحر، وهي تأتي ضمن إحدى قرى منطقة الروحة الواقعة جنوب حيفا، بحسب ما يتحدث المتخصص في التاريخ الحديث والمعاصر، قدري جمال مسعود، لـ"العربي الجديد"، وهو من سكان مخيم جنين حالياً وتعود أصوله إلى قرية أم الشوف، إذ يؤكد قدري أنّ سكنه في جنين ولجوءه إليها هو أمر مؤقت إلى حين العودة، وهو ما يعمل على ترسيخه في أبنائه.
يقول مسعود إنّ مساحة أم الشوف تبلغ وفقاً لإحصائيات عام 1945 نحو 7500 دونم تقريباً، وكان عدد السكان فيها 600 نسمة عام 1886، وقد بني عليها 57 منزلاً. وفي عام النكبة بلغ عدد سكانها 575 نسمة وقد بني عليها 125 منزلاً، فيما وصل مجموع أهالي أم الشوف المسجلين في وكالة الأونروا عام 2008 إلى 4623 نسمة، ويفوق العدد الحقيقي ستة آلاف شخص.
تميزت القرية بظهور التعليم فيها والمخاتير قبل الانتداب البريطاني وبعده، وكان يوجد فيها تعليم ابتدائي ومدرسة تضم نحو 15 تلميذاً، وكان فيها مسجد واحد، بالإضافة إلى مقامات دينية تعود إلى العهد العثماني. أبرز عائلاتها: صباح، صبح، شناعة، أبو جنزير، الياسين، سمور، أبو زور، الطيار، قدح، بشر، أعمر، العواطلة، الرفاعي. تميزت الحياة الاقتصادية في قرية أم الشوف بالزراعة الناشطة بسبب كثرة عيون المياه فيها والتي بلغ عددها 24 عيناً، منها أربع عيون رئيسية. واشتهرت القرية بزراعة الحبوب والبقول والبصل والثوم والبساتين المروية وكذلك زراعة بعض الخضر، بالإضافة إلى زراعة الأشجار من اللوزيات والتين والعنب والتفاح والتين الشوكي والزيتون والتوت والجوز، التي كانت تسوق في حيفا. وعمل الأهالي أيضاً في تربية المواشي، وما يتبع ذلك من إنتاج للألبان والأجبان والأصواف. كذلك، عمل عدد قليل من أهالي القرية في الوظائف الحكومية كمحطة القطار، وفي مصفاة البترول في حيفا.