الدكتور فيليب سالم طبيب وباحث في مجال أمراض السرطان، يرأس حالياً "سالم أونكولوجي سنتر" (مركز سالم للأورام) في هيوستن في ولاية تكساس الأميركية، في حين يشغل منصب المدير الفخري للأبحاث حول السرطان في مستشفى بايلور/ سانت لوك في هيوستن. وفي يونيو/ حزيران 2018، احتفل سالم بمضي 50 عاماً على عمله في مجال الطب والأبحاث الخاصة بالسرطان.
ولد سالم في الكورة، شمالي لبنان، في عام 1941، وحصل على شهادة الدكتوراه في الطب من كلية الطب التابعة للجامعة الأميركية في بيروت في عام 1965. وفي عام 1987 أرغمته الظروف الأمنية في لبنان على الانتقال إلى الولايات المتحدة الأميركية. حصل سالم على جوائز عدّة من كل أنحاء العالم على خلفية مساهماته في أبحاث السرطان. يُذكر أنّه أحد الباحثين الأوائل الذين أثبتوا في سبعينيات القرن الماضي أنّ الالتهاب المزمن في الأمعاء قد يؤدّي في النهاية إلى تشكّل مرض سرطاني.
يُعَدّ سالم مميّزاً بين أطباء اليوم، ليس فقط لمعرفة واسعة في مجال علاج السرطان، بل لإنسانية نادرة في هذا الزمن. بالنسبة إليه المريض ليس مجرّد رقم وهو في حاجة إلى أكثر من المعرفة، كذلك لا يفقد الأمل في شفاء أكثر الحالات تعقيداً حتى لو استسلمت أمامها أبرز المؤسسات العلمية. وفي خلال وجود سالم في لندن لإطلاق كتابه الجديد، التقاه "العربي الجديد" وكان هذا الحديث.
- في كتابكم الأخير "Defeating caner: Knowledge alone is not enough" (هزم السرطان: المعرفة ليست كافية وحدها) قدّمتم حقائق جديدة عن كيفية التعامل مع مرض السرطان، وقلتم إنّ مريض السرطان يحتاج إلى الحبّ. هل يمكن تفسير ذلك ومدى فعاليته في العلاج؟
أوّلاً، أودّ القول إنّني سعيد جداً لوجودي في لندن (غادر بريطانيا قبل أيام) بهدف إطلاق هذا الكتاب لأنّه عصارة ما تعلّمته في السنوات الخمسين الماضية، وهو ليس نظرياً بل نتيجة التعامل اليومي مع مرضى السرطان. ومن أخطر ما نجده اليوم في العالم هو انشغال أطباء السرطان، لدرجة أنّهم يعجزون عن التحدّث إلى مرضاهم. وثمّة فلسفتان في الطب، واحدة تقول إنّ الطبّ هو لعلاج المرض، أمّا الفلسفة التي أعتنقها فهي أنّ الطبّ يعالج إنساناً مريضاً وليس مرضاً. كتابي هو رسالة إلى المريض وكذلك إلى الطبيب. تفيد رسالتي إلى الطبيب بأنّ ثمّة إنساناً خلف المرض ينبغي معالجته... هو إنسان لديه اسم وأب وأم وأصدقاء.... إنسان يتعذّب وهو قلق وخائف من الموت... لا يمكننا أن ننسى هذا الإنسان. الرسالة الثانية للمريض تشدّد على التثقيف. لا يمكنك القول "لا أريد أن أعرف".... يجب أن تعرف حتى تتمكّن من تحمّل علاج مرضك، لأنّ الطريق طويل ومليء بالحفر... وفي كتابي ذلك، أقود المريض خطوة بخطوة، من الخطوة الأولى إلى الشفاء التام، كالراعي.
قد تسألينني "لماذا لا نبدأ العلاج فوراً عند تشخيص المرض؟". في تسعين في المائة من الحالات، يبدأ العلاج في أسرع وقت ممكن. لكنّه لا بدّ من أن نعرف بأنّ علاج السرطان ليس حالة طارئة بل يحتاج إلى استراتيجية وتخطيط، وفي البداية التأكّد من التشخيص.
المريض ليس مجرّد رقم (أحمد الداوودي) |
- أكّدتم على ضرورة توفّر الرعاية والعلاج لمريض السرطان على مدار الساعة، بينما يعاني مرضى السرطان في مناطق كثيرة من العالم العربي من صعوبة أو استحالة الوصول إلى العلاج. كيف يمكن معالجة هذه القضية؟
النقطة المهمة التي أتحدّث عنها في الكتاب هي أنّك قد تذهبين إلى أهمّ مركز سرطان في العالم، لكن بعد انتهاء الزيارة "كيف بإمكانك التواصل معه؟". يعني أنّ المريض يحتاج إلى الوصول إلى الطبيب أو الممرضة، ولا طريقة للتواصل مع الطبيب في المراكز المهمة، لأنّها تهتم بالأبحاث أكثر من المريض. أمّا في مركزي، فنحن نوفّر للمريض أرقام هواتف كلّ واحدة من الممرضات أو الأطباء الذين يهتمون به ويمكنه الاتصال مباشرة بأيّ منهم، لأنّه من الممكن أن يموت في غضون ساعات. مريض السرطان يموت أحياناً من أسباب تنتج عن السرطان. على سبيل المثال، عالجت قبل أسبوعَين مريضة بشكل كامل من سرطان الرئة بعدما كان قد انتشر إلى الدماغ والعظام وكل مكان. عند الساعة الثانية فجراً، اتصلت بالممرضة ونطقت كلمتَين وسقطت أرضاً، فتوجّهت الممرضة فوراً إليها. وجدوها وقد هبط ضغطها إلى صفر. هذه المريضة كانت لتموت في الصباح لو عجزَتْ عن التواصل معنا.
لذلك يشدد كتابي على أنّ المعرفة وحدها ليست كافية، لأنّ المريض ليس مجرّد رقم بل يحتاج إلى محبة الطبيب واهتمامه، يحتاج إلى أن يمنحه الأمل للمثابرة على العلاج حتى لا يصاب بالإحباط ويموت مثلما يحدث لكثيرين من مرضى السرطان. وقبل فترة، عالجت مريضاً يبلغ من العمر 27 عاماً بعدما فقد أهم مركز لعلاج السرطان في العالم الأمل في إنقاذه. عالجناه بطرق جديدة، وبعد عامَين شفي بالكامل. انتقل من الموت المحتّم إلى الحياة.
الاهتمام بالمريض زال في الولايات المتحدة الأميركية لثلاثة أسباب، أحدها أنّ شركات التأمين هي عدوّة الطب لأنّها لا تدفع ثمن دواء جديد مكلف، ثانياً القوانين الجديدة التي تقضي بتوثيق وكتابة كل شيء، فيضيع وقت الطبيب، وثالثاً المحامون الذين يعلّمون المرضى كيفية رفع دعوى قضائية ضدّ الأطباء. لذلك ينظر الطبيب إلى المريض في الولايات المتحدة بعداء وحذر وهذا يضرّ بالمريض والعلاج.
- قلتم إنّكم استخدمتم طرقاً جديدة مع الشاب الذي لجأ إليكم للعلاج. ما هي تلك الطرق؟
أعطيته علاجاً جديداً يُعرف باسم العلاج المناعي الذي غيّر علاج السرطان بشكل جذري. اليوم صارت نسبة نجاح علاج السرطان أعلى بكثير.
- لن أكرّر السؤال لأنّك سبق أن قلت إنّ أفضل منتج في الولايات المتحدة الأميركية ليس "كوكا كولا" بل الطبّ الأميركي... لكنّ الحكومة والتأمين فيها يبذلان قصارى جهدهما لتدمير ذلك المنتج...
بالتأكيد. والنقطة التي أشدّد عليها هي أنّ أعظم ما أنتجت الحضارة الأميركية هو الطبّ الأميركي الذي يسبق العالم لأنّها تمتلك المال لإجراء البحوث.
- متى نفقد الأمل في الشفاء؟
هذا سؤال صعب جداً، ولا أجد نفسي قادراً على فقدان الأمل، لأنّ ثمّة أمراً جديداً في كل يوم. ثمّة شخص من أصول عربية مقيم في لندن، أبلغته المؤسسات في المدينة وكذلك في الولايات المتحدة أنّ لا علاج له. لكنّنا قدّمنا له علاجاً جديداً وشفي بالكامل. هذا لا يعني بالضرورة أنّنا نستطيع شفاء كل مريض بل نحاول. مثلاً، حين يأتي إليّ مائة مريض في مثل هذه الحالة، إذا لا أحاول أخسر المائة. ومن أحيا نفساً فكأنّما أحيا الناس جميعاً.
- في إحدى مقابلاتكم قلتم إنّكم اكتشفتهم العلاقة بين الالتهاب المتكرر والسرطان صدفة. هل يمكن أن تحدّثنا عن هذا الاكتشاف؟
نعم صدفة. حين عدت في عام 1971 إلى الجامعة الأميركية في بيروت، كنت مصمماً على أمرَين، أوّلاً إنشاء أوّل مركز للسرطان في الشرق وثانياً البحوث. حينها قال لي أستاذي الذي أحبّه كثيراً، الدكتور منيب شهيد، أن أقوم ببحوث من دون منافسة الأميركيين لأنّني لا أمتلك الإمكانات وحدي. قرّرت القيام ببحوث حول أمور موجودة في المنطقة هنا فقط. فسألت الدكتور منيب عن ذلك وقال لي إنّه شهد حالات أطفال وشباب فقراء يأتون من المخيّمات (الفلسطينية) حين ننظر إلى أيديهم نلاحظ التهاباً في المفصل الأخير من الإصبع ويعانون من الإسهال ويموتون بعد نحو ثلاث سنوات. فأجريت بحوثاً حولهم واكتشفت أنّ هؤلاء الأطفال يعانون من تكرار الالتهابات الجرثومية في الأمعاء، التي في حال إهمالها تؤدّي إلى مرض السرطان. وأنا أوّل من قال إنّ الالتهابات الجرثومية المتكررة تقود إلى السرطان. واليوم في عام 2019، أستطيع القول إنّ ثلث الإصابات في السرطان هي نتيجة التهابات متكررة لم تعالج في الماضي.
قريبتي ماري بشير كانت حاكمة في سيدني بأستراليا، وكانت تطلب مني أن ألقي محاضرة في الجامعة هناك كلّما زرتها. صدف في أثناء إلقائي محاضرة، وجود الطبيبان اللذين نالا جائزة نوبل في عام 2005 لكشفهما علاقة الالتهاب المزمن بالسرطان بعد قيامهما ببحوث إضافية حول المعدة. لكنّهما لم يكونا أمينَين في العلم ولم يذكرا أنّهما أخذا فكرتهما من اكتشافي.
- تحدثتم عن منع الإصابة بمرض السرطان عبر تناول مضادات حيوية. هل ينفع هذا العلاج في أنواع معينة من السرطان أو في مراحله الأولى؟
ثلث الإصابات بالسرطان ناتجة عن التهابات، مثلاً سرطان الكبد يأتي نتيجة التهاب الكبد المتكرر وثمّة لقاح له. وسرطان الكبد يُعَدّ من أبرز الإصابات بالسرطان في السعودية. أمّا في مصر، فالإصابات بسرطان المثانة هي الأعلى بسبب البلهارسيا في مياه نهر النيل، ولو تناولوا الأدوية اللازمة لما أصيبوا بالسرطان.
أبرز سبب لزيادة نسب السرطان في العالم العربي هو التلوّث (أحمد الداوودي) |
- ما هي أسباب زيادة نسب السرطان في المنطقة العربية في خلال السنوات الأخيرة؟ وكيف ينعكس أثر الحروب على صحة الإنسان وهل للقذائف والأسلحة علاقة بمرض السرطان؟
أبرز سبب لزيادة نسب السرطان في العالم العربي هو التلوّث. وللتلوّث أنواع عدّة منها التلوّث المرتبط بالتدخين، لم يتنبّه له سوى مجلس التعاون الخليجي الذي اكتشف أنّ نسبة النيكوتين في السجائر التي تباع في نيويورك مثلاً منخفضة جداً بينما هي مرتفعة جداً في العالم العربي. فحدّد نسبة النيكوتين ومنع دخول السجائر التي تتجاوز تلك النسبة إلى دوله. لكن في لبنان وسورية والأردن والعراق ومصر وتونس والجزائر، فالأمور ما زالت غير مضبوطة. وثمّة تلوّث بيئي تساهم فيه الحروب لأنّها تدمّر كل شيء، فتهدم المؤسسات وتتجمّع النفايات كما في لبنان ويتلوّث الهواء والمياه والطعام وكل شيء في غياب المراقبة.
- ما هي آخر مستجدات علاج السرطان في خلال السنوات الأخيرة؟ وما هي تكلفتها؟
أبرز حدث في السنوات الأخيرة هو تطوير العلاج المناعي. هذا التطوّر نال عليه رئيس دائرة الأبحاث حول علم المناعة في جامعة أم دي أندرسون الأميركية، جيمس أليسون، جائزة نوبل في الطبّ في عام 2018. العلاج المناعي الجديد لا آثار جانبية له كما العلاج الكيميائي، وهو أكثر فعالية في بعض الأمراض. ثمّة أمراض لم تكن تتجاوب مع العلاج الكيميائي، مثل الميلانوما، سرطان الجلد، لكنّها تتجاوب للعلاج المناعي ويمكن الشفاء منها بشكل كامل. وفي مركزنا، حققنا إنجازاً كبيراً، إذ إنّنا جمعنا ما بين العلاج المناعي والعلاج الكيميائي والعلاج الذي نسميه الموجّه، أي أنّ الدواء يقتل الخليّة السرطانية ويستهدفها وحدها تاركاً الخلايا السليمة. وجاءت نتائج الجمع بين أنواع العلاج الثلاثة مذهلة، واستطعنا بشكل كامل شفاء أمراض كان يستحيل علاجها.
ثمّة نقطة مهمة جداً هي أنّ لا علاقة للطبيب بالتكلفة والمال. حين يأتي إليّ المريض فإنّه يطلب منّي إنقاذ حياته. وسبق أن اقترحت على الأمم المتحدة أنّ أهمّ حقوق الإنسان هو حق الحياة.
- هل تظنّون أنّ الحكومات في العالم العربي قادرة كذلك على توفير العلاج لكلّ مريض؟
بالتأكيد، هي تملك القدرة. في العالم العربي، خصوصاً منطقة الخليج، ثمّة فائض من النفط لهذه الأمور، لكنّها لا تنفق على الصحة بل على أمور أخرى لأنها ليست أولوية حتى اليوم في العالم العربي.
- أيّ مرتبة يحتل مرض السرطان في الترتيب العالمي لأسباب الوفاة؟
في ما يتعلق بنسبة الإصابة والوفاة، يحلّ السرطان ثانياً بعد أمراض القلب. لكن برأيي، المشكلة الصحية الأبرز في العالم هي مرض السرطان لأنّ تداعياته مخيفة. لذلك لا يمكن قياس حجم المشكلة بالعدد، لأنّ المشكلة أكبر من العدد.
- هل ثمّة أمل بأن يصير علاج السرطان فعالاً ويشفى منه المريض بشكل كامل، باختلاف أنواعه؟
بالتأكيد، الآن وليس في المستقبل. والشاب الذي ذكرته (آنفاً) شفي بالكامل بعدما استسلمت أبرز مؤسسات في العالم أمام مرضه. نحن اليوم بما نمتلكه من معرفة، يمكننا منع حدوث السرطان بنسبة 75 في المائة، لو تمتّعنا بسياسات صحية صحيحة. مثلاً، ثلث الإصابات من التدخين، ويمكننا منعها كلها. والثلث الثاني من الالتهابات، كذلك باستطاعتنا منعها. والثلث الباقي هو لأسباب عدّة من الممكن منعها. لكنّنا نمنع اليوم خمسة في المائة فقط. بالعلاج، يمكننا شفاء 60 في المائة من المرضى، بيد أنّنا نعالج أقل من خمسة في المائة. والأسباب عدّة. أقلّ من خمس في المائة من مرضى السرطان يحصلون على علاج جيد.
أحبّ أن أقول لمريض السرطان إنّ الخوف هو عدوّك الأوّل، والمثابرة على العلاج ضرورية. وثمّة فرصة كبيرة للشفاء إذا عولج المريض في مؤسسات تُعنى بهذا الأمر.